عبدالرحمن الوابلي - جريدة الوطن السعودية عندما وجد الإنسان البدائي على الأرض منذ ملايين السنين، كانت تدور من حوله أشياء وظواهر من دون أن يعي تماماً حقيقتها وجواهرها. فكان يتحرك مرعوباً من كل ظاهرة كونية تحدث بقربه صخباً أو حركة مربكة، مثل الرعود والصواعق والعواصف والزلازل وغيرها. فكان يموت بسببها، منهم من يموت، ويهرب الناجون مذعورين منها، للاحتماء في الكهوف والغيران. ومن طبيعة الإنسان ولعه في حب تفسير الأشياء التي تحدث له وتدور حوله. حيث ميزة العقل لديه تجعله لا يقبل بأن تمر الأشياء من حوله دون أن يفهمها ويبحث لها عن أسباب ومسببات تمكنه من تفادي أخطارها والانتفاع بمنافعها. وهذا طبعاً، حسب مجال ما يفسره له تفكيره البدائي البسيط ورؤيته الساذجة للأشياء، لا كما تفرضها طبيعة حقائق الأشياء. فاعتقد الإنسان البدائي المرعوب، أن لكل ظاهرة كونية آلهة تفجرها ضده متى ما غضبت منه، وتحجرها عنه متى ما رضيت عنه. فقادته عقليته الخرافية للتعرف على آلهة المطر وآلهة البراكين وآلهة الصواعق، وغيرها من آلهة تحرك كل ظاهرة طبيعية حوله. وأخذ يدعوها ويتوسل لها بكل ما أوتي من تذلل وخشوع ألا تغضب عليه وتعكر صفو حياته وتخطف حياة أحبابه من حوله وتتركه مهموماً مدحورا. وهكذا وعن طريق صناعة أصنام لكل آلهة، يضعها قريباً منه، يتعبدها ويتوسل لها، ظهرت الديانات الوثنية، اعتقد الإنسان أنه قد توصل لحل، لإشكالية علاقته مع بيئته المحيطة به والتي أرهقته طويلاً وعانى منها كثيراً. وشيد لآلهته معابد وسخر لها أناساً لرعايتها بالنظافة والصيانة، والحفاظ عليها؛ طمعاً في رضاها الدائم وخوفاً من غضبها الحائم، الذي قد يحل به وهو في غفلة منه. وهكذا ظهرت لدى البشر حرفة الكهانة والكهنوت لأول مرة. ومع مرور الزمن أصبحت الكهانة صناعة مربحة ووجاهة اجتماعية مثمرة. وأخذها كمهنة مربحة ومريحة وحصرها عليه وعلى من يثق فيه، وعليه وضع لها شروطا وضوابط، وهكذا تمأسست الكهانة وأصبحت أول مؤسسة مقدسة في التاريخ، قرن رضاها برضا الآلهة وغضبها وسخطها بغضب وسخط الآلهة كذلك. وصار من مهام الكهانة الوثنية تثبيت الخرافة، صاحبة الفضل في إيجادها، وتكريسها وحمايتها من شرور العقل والعلم؛ التي قد تنسفها وعليه تنسف كل مكتسباتها المادية والاجتماعية. وهذه فكرة مرعبة ومخيفة للكهنة، أكثر مما تصدره خرافاتهم من خوف ورعب وأذى للعامة. وقد حدث زواج غير مقدس بين الكهانة وبين النخب الاجتماعية القليلة التي سيطرت على كامل المجتمع ومقدراته الاقتصادية والوجاهية بفضل سلاحها وتجبرها عليه. وعلى أساس هذا الزواج غير المقدس بينهما، أخذا يتبادلان المشروعية من بعض والحماية المتبادلة لبعض. وعليه أخذت الكهانة تتمدد وتتغلغل بالمجتمع، بقدر ما تتمدد الخرافة وتتغلغل فيه. فبعد أن حلت الخرافة إشكالية الإنسان البدائي مع بيئته المحيطة به وعالجته بالخرافة وعن طريق الخرافة، استعان بها كذلك لحل إشكاليته الجسمانية (الأمراض والأوبئة ) الطارئة، التي أخذت تنتشر بسبب التكاثر والعيش حول المستنقعات. فكان الحل الجاهز (الخرافة) تحت الطلب. فأصبح الكاهن ليس الوسيط فقط بين الإنسان وآلهته، ولا كذلك بين الإنسان العادي وقيادته السياسية والاجتماعية فقط، ولكن أيضاً بين الإنسان وجسده. وأصبح أي عطب جديد يصيب حياة الإنسان الروحية أوالجسمانية أو الاجتماعية، يتسلل إليها الكاهن؛ تسبقه إليها الخرافة، ليتعامل معها حسب أدواته ومخترعاته الخرافية، فتدر عليه المزيد من الأرباح والوجاهة، فيحصنها بالمزيد من التهويل والقداسة. وبما أن الأمراض التي تصيب الإنسان وخاصة المعقدة منها مثل، العلل والأمراض الجسدية- نفسية والنفس- جسدية، صعبة الفهم على العقول البدائية، أصبحت مجال الكاهن الخصب الذي لا يتورع عن علاج حتى إشكالية أبعد الأجرام السماوية عنه. فعالجها الكاهن بإصابة صاحبها بمس الجان وعين الحاسد وفعل الساحر، ووصف لها وصفاته الخرافية كذلك وجلساته البهلوانية التي قد تقصر وقد تطول، وقد لا تأتي بالنتيجة التي يسعى لها المريض أو ذووه، ولكنها تأتي حتماً بنتيجة مربحة للكاهن، ومن يعترض عليها، فهو يعترض على إرادة إلهية لا يمسها الباطل أو يقترب منها. وكان للناس عذرهم آنذاك، لعدم تطور فكر الإنسان واكتشافاته العلمية، ولكن لم يكن للكهنة عذرهم، حيث هم أدرى بنصبهم واحتيالهم، خاصة بادعائهم قدرتهم الخارقة على التواصل مع الجان والشياطين واستراق السمع وعلم الغيب، أو القدرة على علاجها. وأرسل الله سبحانه وتعالى رسالاته السماوية للناس، لإنقاذهم من الوثنية والخرافة للتوحيد والعلم بمخلوقات الله التي وهبها لهم ليستفيدوا منها في حياتهم وتعينهم للاستعداد لآخرتهم. فنزل أول ما نزل على رسولنا ونبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم « اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.» إذاً فالديانات السماوية قرنت التوحيد بالقراءة والعلم، وقرنت الوثنية بالخرافة والجهل. فخرج للديانات السماوية علماء بدل الكهان للديانات الوثنية، يؤولون الكتب السماوية للناس ويحثونهم على توحيد العبادة لله وحده؛ وعليه الإيمان بأنه وحده النافع الضار لا غيره من أنس ولا جان، بما وضعه من مقادير ونواميس محدودة ومعلومة لطبيعة الأشياء في الكون وجسد الإنسان وباقي مخلوقاته. وإن من أول مهام المؤمن تقصي حقائق الأقدار التي قدرها الله تعالى، للانتفاع بها واجتناب مضارها، كما قال تعالى «وكل شيء خلقناه بقدر» و»وقل رب زدني علما» ولكن لتقدم الإنسان البطيء في العلم والتبصر في مخلوقات الله، ظل كثير من الظواهر الطبيعية المرضية غامضة وغير مدركة. ولذلك رجع الإنسان للاستنجاد بثقافته الدينية الوثنية السابقة. خاصة كون بعض من تسموا بعلماء الدين لم يكونوا على مستوى الدين ولا العلم لا فهما ولا خلقاً، أعادوا صناعة الخرافة مرة ثانية وأخذوا يستغلونها ويستفيدون منها كما كان كهان الوثنية، وألبسوها لبوس التوحيد، بل وقرنوا الخرافة بكمال التوحيد، وقرنوا العلم والعقل بالوثنية، وليس العكس، كما جاء بسورة اقرأ. وعليه ذمهم الله تعالى بقوله «اتخذوا رهبانهم وأحبارهم أولياء من دون الله.» وقد أصيب ديننا الإسلامي الحنيف بمثل ما أصيبت به الديانات السماوية السابقة، من قرن الخرافة والتصديق بها بكمال الإيمان. وأتى مصلحون لم يكن آخرهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي حرص في دعوته على تنقية التوحيد لله تعالى خالصاً لا شريك له، من التقرب لله عن طريق أولياء أو طقوس خرافية. ولكن عدم مساندة العلم لدعوة الشيخ ترك العامة بحاجة إلى المزيد من تطهير العقيدة من الشركيات، مثل الإيمان بأن الإنسان يشترك مع الله في ضر الإنسان ونفعه عن طريق العين والسحر والجان. خاصة أن العلم أصبح الآن سنداً ثابتاً ومقنعاً لدحر خرافة قدرة غير الله على مشاركته في النفع والضر. فهل يبرز لدينا علماء دين يتمتعون بالعلم والشجاعة ليكملوا دعوة الشيخ محمد الإصلاحية، في تنقية عقيدتنا ويضحوا بخرافات الأموات، من أجل كمال إيمان وسلامة الأحياء؟