د. عبدالمنعم سعيد نقلا عن الاهرام لم تكن مباراة مصر والجزائر مجرد سباق في كرة القدم للحصول علي بطاقة التأهل لنهايات كأس العالم, وإنما كانت نوعا من الاختبار للنخبة الثقافية والفكرية والسياسية في البلاد, وقدرتها علي التعامل مع حدث له أهميته الرياضية ولا شك, ولكنه ما لبث أن أصبح جزءا من الشأن العام. وكما هو معلوم فقد جري الحدث علي جولتين: الأولي كانت في القاهرة عندما فاز فريقنا القومي بهدفين للا شيء, وعلي مدي أربعة وعشرين ساعة تقريبا, ما بين صباح السبت الرابع عشر من نوفمبر الحالي, وحتي صباح الأحد من اليوم التالي خرج مئات الألوف من المصريين إلي الشوارع في كل المحافظات المصرية رافعين الأعلام المصرية وهاتفين بحياة مصر. والثانية بدأت بعد ذلك فورا حينما ساد قدر كبير من التفاؤل بالاقتراب من نهائيات كأس العالم, ولكن نغصها عمليات من هجوم الجزائريين علي المنشآت المصرية في الجزائر ردا علي معلومات غير صحيحة حول اعتداءات جرت علي الجزائريين في مصر. ومع محاولة تهدئة الأمور ذهبت الجماهير المصرية والجزائرية إلي السودان, وخسر الفريق المصري, وبعدها قامت جماهير الجزائر التي فاز فريقها توا بالاعتداء علي الجماهير المصرية, وطالبت الحكومة الجزائرية شركة أوراسكوم المصرية التي خسرت نتيجة العنف واحدا من مصانعها في الجزائر بضرائب قدرها600 مليون دولار, هبطت البورصة المصرية علي أثره بمقدار3%. الأحداث هكذا كان من الممكن أن تكون تداعيات مباراة في كرة القدم, وسباق ومنافسة غير محمودة وغير رياضية أخذت أشكالا غير متوقعة, وبعدها تمضي الحياة انتظارا ليوم آخر يكون فيه فوز وهزيمة. وقبل كل شيء وبعده, فإنه يحسب لفريقنا القومي تقدمه خلال العقد الأخير بحيث بات واحدا من القوي الكروية في أفريقيا التي يحسب لها حساب. وبالمقارنة بالعقود السابقة فإن هناك تقدما في الأداء والنتائج مماثلا لما جري في مصر في مجالات أخري, ولكنه مثلها أيضا لم يستطع أن يخترق ذلك الحاجز الذي يفصل بين التأخر والتقدم, والفقر والغني, والضعف والعافية, لأن القدرة والقوة والعزيمة ليس فيها ما يكفي بعد من الطاقة لتحقيق الانطلاق. المشكلة أنه في مصر لايؤخذ شيئ أبدا في إطاره, وخلال أسبوع راجت نظريات أجمعت كلها تقريبا في حالة الفوز والهزيمة علي وجود حالة من الإخفاق القومي تراوحت مسئوليته ما بين الحكومة والحزب الوطني الديمقراطي في جانب, والشعب المصري نفسه في جانب آخر. وباختصار فإن جزءا غير قليل من الجماعة الإعلامية والفكرية بدت وكأنها لا تريد فقط حكومة أخري, وإنما شعبا آخر, وفي العموم بلد ليس كذلك الذي نعرفه ويريده كل من لهم رأي أن يكون طبقا لمواصفاته الخاصة. النظرية الأولي, قالت إن الحشد الإعلامي الكبير الذي تركز حول المباراتين مثل نتيجة طبيعية لحالة الفراغ السياسي التي يعاينها المصريون وعدم وجود قضية جوهرية يمكنهم الاجتماع حولها, نتيجة تبني الحكومة لأجندات مختلفة عن القضايا التي تهم المواطنين. ولنلاحظ هنا أن المراقب لم يلحظ أبدا أن الاهتمام الشعبي بمثل هذه المباريات الرياضية كان جاريا في كل العالم بنفس الدرجة من الكثافة والاهتمام وحتي العصبية, خاصة في تلك الدول التي باتت قريبة من الوصول إلي نهائيات كأس العالم, ولم يكن هناك حديث في مثل هذه الدول علي أنه تعبير عن فراغ سياسي مزعوم. ولاحظ أيضا أنه لم يحدث أبدا أن كانت" الأجندة" السياسية للمصريين مزدحمة مثل ما هي مزدحمة هذه الأيام, فالأحزاب لا تكف عن الحديث عن سلامة الانتخابات, والحكومة لديها قائمة طويلة من المبادرات الاقتصادية والاجتماعية التي لا يوجد عليها توافق بعد, لا داخل الحزب الوطني ولا خارجه, والإعلام في كل الأحوال لم يقصر أبدا في خوض الانتخابات البرلمانية قبل موعدها بعام, والانتخابات الرئاسية قبل عامين, فأين ذلك الفراغ السياسي الذي يجري الحديث عنه؟ وفسرت النظرية الثانية اندفاع المصريين في تشجيع الفريق الوطني بكل هذا التعصب, بأنهم يبحثون عن السعادة بأي طريقة, ويجدون في كرة القدم ما لم يجدوه في مجالات أخري. هنا لا تبدو المسألة تقاليد من الاهتمام الكروي المصري كانت موجودة في عصور كثيرة, وإنما اختيار بعينه علي طريق السعادة لا يمكن فهم مبرراته من خلال حالات النصر والهزيمة التي تلحق بالرياضة في العموم, وهي لا تسبب السعادة دائما, وإنما من خلال عملية حسابية لاختيارات ما بين أمور الشأن العام والمباريات الكروية. مثل ذلك لا يوجد دليل واحد عليه, والمقارنة ما بين مسائي السبت والأربعاء من الأسبوع الماضي تفصح عن أن السعادة والتعاسة جائزة في كرة القدم كما هي موجودة في كل أمور الحياة الأخري. أما النظرية الثالثة فتقول إن" الكرة" نجحت في أن تكون الأرضية الوحيدة التي تتفق فيها المعارضة مع الحزب الوطني الديمقراطي تحت منطق أنا وأخويا علي ابن عمي, مستندة في ذلك إلي الفرحة التي انتابت أقطاب المعارضة والنظام بعد فوز مصر في مباراة القاهرة, والحزن بعد مباراة أم درمان. مثل هذا الاجتزاء لكرة القدم كمجال للوحدة الوطنية لا ينفي نظرية الفراغ السياسي المشار لها سابقا فقط, وإنما أيضا ينفي وجود أمور أخري تلتقي فيها أحزاب المعارضة مع حزب الحكومة حسب أفكارها والسياسات التي تقترحها, وبشكل عام فإن هناك توافقا غير قليل بين الحزب الوطني وحزب الوفد علي السياسة الخارجية, وما بين كل الأحزاب تقريبا علي سياسات الدعم, وعلي أهمية التعليم, والحفاظ علي الدولة المدنية, وبعد ذلك يفترق الجميع علي أمور أخري كثيرة كما يجب أن يكون الحال. وأرجعت النظرية الرابعة اهتمام الرأي العام بالمباراتين إلي أن المصريين يحاولون إخراج كل ما لديهم من شحنة عاطفية في الرياضة باعتبارها المجال المسموح فيه بالتحزب والتحيز والانقسام, والتفريغ لغضب مكبوت. ولاحظ هنا أن هذه النظرية تمثل تنويعة أخري علي نظريتي الفراغ السياسي والبحث عن السعادة حيث يبدو الشعب المصرية حالة" نفسية" استثنائية تكون فيها مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر فرصة للتعبير عن غضب كامن ودفين طال انتظار انفجاره من قبل النجم الإعلامي أو الكاتب الصحفي, وعادة ما كانوا يرجعون غياب الثورة المنتظرة من قبل للسطوة الأمنية الشديدة. والآن فكما حدث يوم السبت الماضي فإن الثورة قد حدثت بالفعل من الناحية العملية عندما نزل إلي الشوارع المصرية ما يمكن حسابه بالملايين التي تتفوق علي كل القوي الأمنية المصرية مجتمعة. ومن المؤكد أنه لو كان لدي الشعب المصري هذا الغضب الفائر, والسخط البالغ, لكانت الفرصة لديه أكبر من كل الفرص التي عرفتها الثورات البرتقالية والبنفسجية التي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة. ولكن ما جري فعلا هو أن الشعب المصري احتفل بالنصر كما تفعل شعوب أخري, وعاش حزنا نبيلا مع الهزيمة, وفي الحالتين كانت لديه مشاعر وطنية مشروعة انتهت برجوع الجميع إلي أعمالهم انتظارا لواقعة رياضية أخري. وقالت النظرية الخامسة إن الدولة المصرية" ركبت الموجة" وتعمدت غض الطرف عن المشاحنات الإعلامية بين مصر والجزائر التي سبقت المباراتين, لتبدو انتصارات الفريق القومي وكأنها من إنجازات النظام والحزب الحاكم. وتطرح هذه النظرية تفسيرا آخر يتمثل في محاولة النظام السياسي تقليص حدة الرفض والاستياء تجاه رموزه, من خلال التودد إلي الشعب والتماس معه من خلال حضور قيادات مسئولة للتدريب والمباريات. وتستند هذه النظرية في جانب منها إلي ما قالته صحيفة" كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية في تقرير لها من أن النظام المصري سمح للجماهير المصرية بإشاعة الفوضي في الشوارع وتعطيل المرور والإخلال بالأمن العام عن طريق إشعال النيران كنوع من الإلهاء لهم عن مشاكلهم المادية الصعبة وبث روح من الفخر الوطني لديهم يمنعهم من المطالبة بزيادة الأجور أو المطالبة بأي حق من حقوقهم. لاحظ هنا أن الأمر قد انقلب تماما, فبعد أن كانت المسألة تخص الشعب الذي يعاني الفراغ ولا يجد ما يشغله, فقد بات لعبة حكومية من أجل الحصول علي مكاسب سياسية من نصر رياضي. والمنطق هكذا يبدو معوجا, فإذا كان النصر يمثل موجة يمكن ركوبها, فماذا يكون الحال مع الهزيمة, وكيف يمكن تفسير اقتراب الحزب من الشعب في الوقت الذي هو متهم بالبعد عنه, وفي النهاية أليس ذلك هو ما يجب علي الأحزاب السياسية عمله, وكان ذلك هو ما ظهر علي الأقل من حالة الصحافة الحزبية خلال الأيام الماضية؟! النظرية السادسة كانت كما هي العادة استدعاء التوريث لكي يتم حشره في المسألة كلها حتي بدت قضية وجود مسابقة لكأس العالم, واشتراك مصر فيها, ووصول مصر إلي ما وصلت إليه من اقتراب من النهائيات بالنصر علي الجزائر في القاهرة, وكأنه تم إعداده خصيصا لكي يقوم بتجهيز مسرح الوراثة السياسية في مصر. والدليل المطروح هنا هو حضور السيد جمال مبارك أمين السياسات بالحزب الوطني لتدريب المنتخب ومبارياته سواء تلك التي تمت في القاهرة أو أم درمان. هنا فإن المعلق يتجاهل تماما أنه كان بوسع كل الأحزاب السياسية المشاركة في الحدث الرياضي كما فعل الحزب الوطني الذي لم يشارك منه أمين السياسات فقط وإنما عدد من الأمناء والوزراء المهمين الآخرين. ولم تكن هذه هي السابقة الوحيدة بل كانت هناك مشاركات أخري تجري علي المستوي السياسي والاقتصادي العام سواء ذلك الذي يتعلق ببرنامج الحكومة أو مشروع الألف قرية الفقيرة. وبوسع الأحزاب والقوي السياسية أن تأخذ علي الحزب الوطني الديمقراطي ألف مأخذ, ولكنها لا يمكنها أن تسلبه حقيقة أن قياداته لا تكف عن الحركة بين محافظات مصر المختلفة, وطرح سياسات وخطوات محددة للتطور الاقتصادي والاجتماعي في مصر يمكن الاختلاف معها واقتراح تعديلها أو طرح بدائل كاملة لها. وضمن هذا كله لا يمكن تفسير حركة قيادات الحزب إلا من خلال النزعة الوطنية لتشجيع الفريق القومي, ومن خلال النشاط العام للحزب للبقاء وسط الجماهير وهو الواجب الأول لكل قيادات الأحزاب السياسية. لكن النظرية السابعة تبدو أكثر تعقلا حيث تعارض هذا الرأي, وتتبني وجه نظر أخري مفادها أن العلاقة قائمة منذ زمن طويل بين السياسة والرياضة في مصر منذ بداية القرن العشرين عندما تم تأسيس النادي الأهلي كناد وطني في مواجهة الأندية التي أسسها الإنجليز. هذا الارتباط ظل مستمرا لصالح أهداف وطنية حتي عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي فكر, وفقا لهذه النظرية, في تأسيس الاتحاد الأفريقي, وإطلاق مسابقة كأس الأمم الأفريقية, كوسيلة لمد النفوذ المصري داخل القارة الأفريقية. ووفقا لهذه النظرية, فإن هذا الربط يكون مشروعا عندما يستخدم لتحقيق أهداف ومصالح عليا للدولة, لكنه يتحول إلي أداة منبوذة عندما تستغله الدولة لصرف الانتباه عن الفشل في تحقيق أي إنجازات حقيقية في أي مجال, عكس كرة القدم التي حققت عددا كبيرا من الإنجازات في السنوات الماضية, منها فوزان متواليان ببطولة الأمم الإفريقية, بما يجعل عدد بطولات الأمم الإفريقية التي حصلت عليها مصر خلال العقد الأخير ثلاث مرات في أعوام2006,1998, و2008, وخلال نفس الفترة حصلت مصر علي خمس ميداليات أوليمبية لم تحصل علي مثيل لها منذ نهاية الأربعينيات. والأمر هنا يحتاج إلي قدر غير قليل من المراجعة لتحديد معني الإنجاز ومداه, ووفق كل المعايير فإن انجازات مصر في مجالات مختلفة ليست ملحوظة فقط وأشرنا لها في مقالات سابقة, إلا أنها لا تختلف كثيرا من حيث المعدلات عما هو قائم في المجالات الرياضية. وترجع النظرية الثامنة ما حدث بين الجزائريين والمصريين في أثناء وبعد المباراتين الأولي والثانية إلي خصائص في الشخصية الوطنية في الجانبين, فالجزائري المتهم بحدته وعنفه وقسوته عندما يتعلق الأمر ب"النيف" أي الكرامة, يعبر بطريقته عن" عقدة الشقيقة الكبري" التي تستأثر بالتاريخ والحاضر والفن والسياسة والثقافة, وتريد أن تضم الرياضة إليها. أما المصري المتهم بالمبالغة والفهلوة والانغلاق علي الذات فيستغرب أن يحاول أحد منازعته مكانته أصلا, ويوظف قدرته المتاحة في مواجهة هذا التحدي. ولكن النظرية هكذا تنزع إلي التبسيط الشديد, وهو مخالف للواقع, وفيه تجن شديد علي الجانب المصري الذي لم يعامل الجزائريين كجماعة وجبت مطاردتها, وتدمير منشآتها, بل إن الأمر لم يخل أبدا من تعال جزائري يحتاج مناقشة وفحص في مجال آخر. بينما تطرح النظرية التاسعة تفسيرات أخري لهذا الاهتمام الزائد بعيدة عن الشأن السياسي, منها التقدم التقني في وسائل الإعلام من تليفزيون وأقمار صناعية وبث مباشر, حيث يتم إذاعة المباريات في نفس توقيت إقامتها, مع تقديم نقد رياضي ساخر في بعض الأحيان بما يسهم في شحن الجماهير. يضاف إلي ذلك حدوث تطور مهم في هوية الجمهور المصري المتابع للمباريات, خصوصا الذي يحضر إلي الاستاد, حيث اجتذب في الآونة الأخيرة أبناء الطبقة الوسطي التي اعتادت علي البعد عن السجالات السياسية والتمرد علي الدولة, نتيجة تمتعها بمستوي معيشي أعلي, وعدم مواجهتها للمشكلات الحياتية والمعيشية التي يواجهها أبناء الطبقة الفقيرة, بما يجعل اهتمامها بالمباريات نوعا من التباهي واستنفاد طاقات جماعية في احتفال صاخب, بعيدا عن المظاهرات والإضرابات التي تشهدها مصر للاحتجاج علي أوضاع معيشية. ولاحظ هنا الانقلاب الذي جري في التحليل, وبعد أن كانت سلوكيات الشعب المصري تعبيرا عن غضب مكبوت, وضعف في الإنجاز, وتعبيرا عن فراغ سياسي فقد بات الأمر اتساعا لطبقة وسطي قيل إنها تراجعت من قبل, ووجدت في المباريات الرياضية ما يفرغ طاقاتها السياسية في مجالات بعيدة عن الفقراء. لقد انتهي شأن كأس العالم المقبلة في جنوب إفريقيا بالنسبة لمصر, ولكن كأس التقدم سوف يظل السباق نحوها قائما في كل الأوقات, وبصراحة فإن ما نحتاجه ضمن هذا السعي هو أن يكون لدينا ما هو أكثر نضجا وتطورا مما حصلنا عليه حتي الآن.