اليوم آخر جمعة نصلّيها في شهر رمضان الحالي، وكلنا رجاء في ربنا أن يتقبّل منا قليل العمل بجزيل الثواب، فهو وحده الذي يعطي على القليل الكثير، فالحسنةُ بعشر إلى أضعاف كثيرة، ونسأله أن تشملنا في هذا الشهر رحمته ومغفرته، ثم عتق رقابنا من النار، وبعد يوم أو يومين نستقبل العيد، والفرح فيه مشروع، بل هو زمنه المخصوص، فرح بتمام الفريضة وحُسن أدائها، وفرح بالفطر بعد الصيام، وبألوان من الفرح أخرى، عبّر عنها سيد الخلق المصطفى حين رأى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فقال: خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، وقد أذن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للجواري أن يضربن بالدفوف في بيته، ويغنين في يوم عيد، وهذه الفسحة التي منحنا الله إيّاها دليل على أن هذا الدّين الذي نعتنقه دين سماحة ويسر، فيه من مراعاة الواقع والمرونة فيه ما لم يكن لغيره من الأديان، فلا يجوز لأحد أن يصادر هذه الفسحة بحجة أن الناس قد توسّعوا فيها، أو أساءوا استعمالها، والدّين المحرم فيه معلوم لا يتنازع فيه المؤمنون به، وما كان فيه مباحًا يدركونه جميعًا، فمصادرة الفرحة بالعيد بحجة أن جراحنا المثخنة، وأوضاعنا المؤلمة في عصرنا هذا لم تترك مكانًا للبسمة على وجوهنا، كما يردد البعض في دعوة للحزن الدائم الذي لا يشفي جراحًا، ولا يصلح أوضاعًا، والمطالبون اليوم بإلغاء مظاهر الفرح بالعيد، وإلغاء المهرجانات التي تعد لها الأمانات في مدننا الكبرى، والبلديات في المحافظات، وبإشراف إمارات المناطق لإدخال السرور على المواطنين، إنّما هو لون تطرف ممقوت، يعاني منه هذا المجتمع الطيب المحافظ على دينه، وحتى لا يكون هذا التطرف سببًا لحرمان الناس من فرح مشروع في فترة استجمام، يأتي بعد طول معاناة من عمل طوال العام، خاصة وأن الداعين إلى الحزن في زماننا هم الكثر، وأصواتهم هي الأكثر صخبًا، كلما دعا منا أحد إلى أن ينال الناس في مناسبة كالعيد سرورًا، ذكّرونا بهذه الاحزان الكثيرة التي سببتها -ولا شك- أوضاع متردّية في عالمنا العربي الأقرب إلينا، والذي نحن منه جزء أصيل، لا تختلف أوضاعنا عن أوضاعه إلاَّ قليلاً، وعالم إسلامي من ورائه ننتمي إليه، وأوضاعه -ولا شك- تعمّق أحزاننا، ثم يزيد الهم همًّا أصوات هؤلاء المطالِبة بإلغاء كل نسمة فرح تمر بحياتنا، ولكنا رغم هذا كله لابد لنا من فسحة أمل نتناسى فيها هذه الأحزان بعض الوقت، الذي قد لا يزيد عن أيام قلائل في هذا العيد أو ذاك، فإذا جاء مَن يطالبنا ألاَّ نُظهر فرحًا بعيد، وأن نُمضي أيام الأعياد كما نُمضي سائر الأيام في حزن وأكدار، قلنا له: كفاك يا رجل استهانةً بعقولنا! فديننا نعرفه، ونحن قبلك أشد الناس احترامًا له، ولكنه لا يمنع الفرح عناء، ولن تستطيع أن تحرمنا من هذا الفرح، وإن أعددت من أجل هذا العرائض والبيانات، وإن كنت لا ترغب في هذا الفرح مع إخوانك فالزم بيتك، ولا تعطّل فرحهم لأيام قليلة يتيمة في العام، تهب فيها رياح السرور عليهم، ففي مجتمعنا هذا فئة تعشق الحزن وتراه فضيلة، وتكره السرور وتراه رذيلة، همّها إحباط تطلعات الناس وتيئيسهم حتى يشاركوهم ما هم فيه من تجهم وجوه، وافتعال حزن، وترديد كلما أقبل عيد (بأي حال عدت يا عيد)، رغبة منهم ألاَّ يمر زمان إلاّ وذكّروا الناس فيه بالأحزان ما مضى منها، حتى ما مر عليه قرون، وما استجد منها في زمن قريب وانتهى، أو لازال باقيًا، ولعلّهم إن لم يجدوا شيئًا يذرفون عليه الدمع اخترعوه، حتى أن بعضًا منهم حرصًا منه ألاَّ تزول الأحزان يعمد إلى ليالي الأفراح، التي يقيمها الناس فرحًا بزواج أبنائهم، يعمد لحضور تلك الأفراح، ليذكّر المدعوّين إليها بأهوال الآخرة، وعذاب النار، وكأنه يستكثر عليهم سويعات الفرح، وحينما يعلن عن مناشط لإدخال السرور على الناس، وكلها من ألوان الترفيه البريء، رأيتهم يصرخون من الألم، فكل لحظة سرور تمر بأهل هذا الوطن تجعلهم يستشيطون غضبًا، فالسرور يجرح مشاعرهم، ضاقت عليهم الدنيا عبر أوهام اخترعوها، فأبوا إلاَّ أن يبسطوا على الناس من ضيقهم الدائم ما يبعد عنهم كل سرور، ولكن هيهات أن يتسنى لهم ذلك، وهؤلاء إن لم نواجه أوهامهم بالحقائق وما يبثونه من إحباطات بين الناس ببيان ما يدعو إليه الدين من تفاؤل وسماحة، فإننا سنسلم حياتنا إلى كآبة دائمة، لا تترك لجلّنا فرصة في السعادة، فمقاومة هذا الفكر الممعن في طمس الحقائق الدينية، وإبعاد الناس عن صفاء الدين ويسره واجب على كل ذي علم، فهل يفعلون؟ هو ما أرجو.. والله ولي التوفيق.