ليس من منهجي الكتابة في الأحداث الجارية؛ لأنني منشغل تمام الانشغال في بناء الرؤى والأفكار النهضوية ...لكن وجدت نفسي في الآونة الأخيرة مضطراً لأن أحيد مؤقتاً عن هذا النهج؛ لشعوري بأن على المثقف والمفكر أن ينزل إلى الواقع المعيش في بعض الأحيان؛ حتى يحول دون وقوع ضرر كبير أو خطأ فادح. وأود في تحيتي للمقاومة الباسلة في غزة الصامدة أن أبوح ببعض مكنونات عقلي وقلبي للتعبير عن مسلَّمات وعن أشياء قد تثير الجدل، ولعل من جملة ما يجب أن أبوح به الآتي: 1 أهل فلسطين أصحاب أرض محتلة، والصهاينة مغتصبون ومحتلون في نظر كل الأعراف والقوانين الدولية الرسمية منها والشعبية، ومن ثم فإنه ليس من حق المحتل وليس من حق اللص أن يدعي بأنه يدافع عن نفسه؛ لأن الدفاع عن النفس هو من حق من احتُلّت أرضه، ونُهبت خيراته، أما المحتل فهو معتدٍ ومرتكب لجريمة حتى لو لم يطلق رصاصة واحدة، ويجب أن يكون هذا واضحاً للصديق والعدو والمتفرج... 2 واضح جداً من تاريخ صراعنا مع اليهود أنهم يجمعون بين صفتين: الجشع غير المحدود والكِبر المستطيل، وهاتان الصفتان تجعل التفاهم والتفاوض مع صاحبهما عقيماً ما لم يكن لدى المفاوض قوة تُشعره بأن التمادي في الجشع، والكِبر مكلف، وأن من الخير له أن يعيد النظر في ذلك وإلاّ فإنه سيدفع ثمناً غالياً، وهذه القوة تتمثل في الممانعة، ورفض الاستسلام، ومقاومة المعتدي بكل الوسائل الممكنة. 3 لا يستطيع أحد أن يشكك في نقاء المقاومة وبسالتها؛ فالصمود الذي رأيناه في غزة يثير الإعجاب، ويعبر عن روح فدائية نادرة، كما يعبر عن استهانة كاملة بالحياة من أجل بقاء الراية مرفوعة، ومن أجل صون الكرامة، ونسأل الله للمقاومين الأشاوس الإخلاص والثبات. 4 الجماعات الإسلامية والحركات الإسلامية عامة تتطلع إلى لمّ شمل العرب والمسلمين في كيان واحد أو كيانات كبرى، وهذا هدف إستراتيجي، وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي ألاّ نسمح لبلد واحد أن ينشطر إلى قسمين مهما كانت الأسباب، وإن ما حصل إلى الآن هو بمعيارٍ ما فشل للجميع. ما زلنا نتذكر حقبة ما يُسمّى ب(ملوك الطوائف) في الأندلس حيث انقسمت البلاد هناك إلى اثنتين وعشرين دولة (ما أشبه اليوم بالبارحة!!) متناحرة فيما بينها، إلى درجة استعانة بعض الأشقاء ببعض ملوك أوروبا على أشقائهم!! إننا نذكر تلك الحقبة والألم يعتصر قلوبنا, وأملي -وإخواننا الفلسطينيون في فم الأسد- ألاّ يجعلوا من أنفسهم لقمة سائغة وسهلة من خلال الانقسام والتشرذم الذي نراه الآن, وإن على علماء المسلمين و حكمائهم أن يعملوا على إنهاء ذلك بأسرع وقت ممكن. وأنا أناشد الإخوة في فلسطين ألاّ يسمحوا لأنفسهم بالانجرار إلى حرب إعلامية مفتوحة فيما بينهم, وأن يتركوا للعودة إلى الوفاق طريقاً وفرصة, وإلاّ فلن يكون هناك رابح, سوى اليهود والحاطبين في حبالهم. 5- هل ما جرى في غزة في الحقبة القريبة الماضية شكّل انتصاراً لليهود أم للمقاومة؟ وهل حققت إسرائيل أهدافها من تلك الحرب؟ هذا سؤال مطروح اليوم بقوة، ويجب ألاّ نخاف من طرحه، فالتهرب من الأسئلة الصعبة لن يحل أي مشكلة بل يولد اليأس والإحباط . في مقاربة من رجل غير خبير في الأمور العسكرية والإستراتيجية أقول: إن إسرائيل لم تحقق كل أهدافها، فحماس ما زالت صاحبة الكلمة في غزة، وقيادتها لم ترفع الراية البيضاء، والمقاومة ظلت في ظل العدوان وبعده متماسكة وفاعلة، ولا شك من وجه آخر أن المقاومة كسبت سمعة طيبة في الوسط الإسلامي، ولقيت بعض التعاطف على المستوى العالمي، كما أن الصورة التي تقدم إسرائيل نفسها فيها للعالم قد تعرضت للكثير من الخدش, ويكفي أن هناك أكثر من ستين منظمة دولية, تعمل على رفع قضايا جرائم حرب ضد إسرائيل أمام المحاكم الدولية, هذا كله واضح للعيان, لكن من وجه آخر يمكن أن يُقال: إن من المبكر الاحتفال بالنصر, فالأمور بخواتيمها, وليس من الصواب تكرار ما فعله حزب الله في جنوب لبنان من ادّعاء النصر؛ فالحقيقة الماثلة هي أن حزب الله كان يسيطر على الجنوب بالمطلق, لكنْ هناك اليوم ثلاثون ألف عين تابعة للأمم المتحدة تراقب أنشطته وتحركاته, أي هناك خسارة على الأرض, وهي لا تقبل الجدل. الآن حضرت بعض القطع البحرية الغربية لمراقبة شواطئ غزة, وهناك الآن (كاميرات) تركّب على امتداد حدود غزة مع مصر لمراقبة تهريب السلاح, ولا يستطيع أحد أن يقول: إن حصول المقاومة على السلاح وغيره سيكون أسهل. ولقائل أيضاً أن يقول إذا كان ما حصل في غزة نصراً مبيناً, فما تعريف الهزيمة إذن؟ وأنا شخصياً أرى في احتفالات النصر التي تُقام هناك وهناك نوعاً من عدم الاهتمام بالناس الذين فقدوا أحباءهم وأعمالهم وبيوتهم, وهذا غير جيد. الخلاصة: إذا كان هناك اختلاف في تعريف ما حدث هل هو نصر حاسم أو نصف نصر- كما أرى أنا- أو هزيمة, فإن من غير الملائم إظهار الابتهاج بالطريقة التي شاهدناها ونشاهدها اليوم؛ فنحن لا نريد أن نفقد ما تبقى من أرضيات ومفاهيم مشتركة؛ لأن عاقبة ذلك هي المزيد من الانقسام والتباعد. ومن المهم في هذا السياق ألاّ يغيب عن البال أن الناس حين يدفعون ثمناً باهظاً لبقائك في السلطة أو حتى لبقاء المقاومة, فإنهم سيندفعون إلى المغالاة في طلب ما سيقدّم إليهم مقابل ذلك, وهذا من سنن الله – تعالى- في الخلق, ويبقى عليك أن تحقق المطالب العالية في ظروف غير مواتية، وإذا لم تفعل فإن لك أن تتوقع الكثير من المشاعر والصور الذهنية السلبية. هذه ملاحظات محب ومشفق وغيور, ولكم أن تتوقعوا ملاحظات أخرى في المقال القادم, ومن الله الحول والطول.