تجربة سينمائية فريد جديدة وفريدة من نوعها للمخرج النرويجي توماس هوج الذي حبس الانفاس لساعة كاملة وهم يلاحقون المزج العبقري للشعر والموسيقى والصورة. أبحر هوج بالمشهدين من بحر النرويج شمالا وحتى الأراضي الفلسطينية.. من قرنين ماضيين وحتى عامنا الفائت .. من لغة إلى أخرى ومن شاشة إلى مثيلتها.. واصلا بين رغبة البسيط في الحياة وقسوة البحر والموج والصحراء والبندقية.. مع محمود درويش وهنريك إبسن كانت للجمهور وللمخرج تجربة جديدة داخل قاعة صغيرة لم تحتمل غير القليل من الجمهور الإنجليزي الذي شاهد العمل بنسخته الإنجليزية. قام بدور الراوي فيها الممثلة الكبيرة فانيسا ريدجريف المعروفة بمناصرتها للقضية الفلسطينية بشكل خاص.. صوت فانيسا ريدجريف وطريقة إلقائها ووجها الذي خطت تجاعيده خبرة طويلة في مجال السينما والمسرح وحتى السياسة بمعناها التقليدي أضفى على النسخة الإنجليزية من الفيلم بعدا جديدا أبحر بنا بعيدا وعميقا فى معنى القصيدتين. القصيدة الأولي هي لهنريك إبسن (1828 - 1906)، الكاتب المسرحي النرويجي ، وأحد أبرز الشخصيات العالمية في الادب المسرحي الحديث، المعروف ب "أبو الدراما الحديثة". كتب إبسن 26 مسرحية، واتصفت مسرحياته الوطنية بالقوة والحماسة، ومن أهم أعماله مسرحيات "ملهاة الحب"، "الأدعياء"، "بيت الدمية"، "الاشباح"، "وعدو الشعب"، ترجمت هذه المسرحيات إلى عدة لغات عالمية منها العربية. في عام 1861 كتب هنريك إبسن قصيدته الشهيرة "تيري فيجن" التي تعود حكايتها إلى القرن التاسع عشر عندما كانت السيطرة على بحار الشمال للبريطانيين، وتيري فيجن.. قلب القصيدة.. هو الباحث عن لقمة العيش المنسحق فى ظل الحرب والبحر والفاقة والمستعمر الإنجليزي. "حين ذاك صرخ اللورد أنظر القاع يميل تحت ارجلنا أو ينحدر ابتسم المرشد لا تخف ها هنا غرق قارب محمل بثلاثة دنان من الشعير فى القاع نفسه الذي يحملنا الآن للتو غمرت بالرعب وجه اللورد ذكرى فعلته المنسية تذكر الآن فقط ذلك الذي طلب منه الرأفة راكعا على متن زورقه وهنا صرخ تيري فيجن: كان كل مصيري بين يديك لكنك فرطت فيه باسم الشرف والمجد لحظة واحدة وأكون قد انتقمت منك" وفيجن تتنازعه رغبتان: رغبة العيش فى سلام ورغبة الانتقام، فهو الذي فقد زوجته وطفلته دون سبب ظاهر، لكنه رغم ذلك وبعد سنين البحث والقهر والفقد يملك القدرة على المغفرة وتجاوز همه الإنساني لينال خلاصه الأخير فى التحرر من الفكرة. هذا جزء من قصيدة تيري فيجن كما رواها درويش بالعربية: "وهنا أشرق وجه تيري فجأة بالرضا والطمانينة فراح صدره يعلو ويهبط باسترخاء وسكينة أعاد الطفلة برفق مقبلا يدها برقة تنفس الصعداء كمن أطلق سراحه من زنزانة سجن وبدا صوته هادئا ونقيا: هو ذا تيري فيجن، ذاته ثانية" ويستمر العرض أو القصيدة، وتتحول البحار الممتدة إلى صحراء مترامية، وتتبدل الوجوه التي تعود لقرنين ماضيين إلى وجوه عربية تملأ الشاشات الخمس ضائعة وسط الصحراء مترامية الأطراف باحثة عن حقيقة الإنسان والروح، وجندي درويش الذي يحلم بالزنابق البيضاء يروي قصة انتصاره وموت الآخرين، أو قصة احتضاره وحلم قيامته ومغفرته. تكتمل بذلك منظومة تيري فيجن التي بدأ بها العرض والذي كان حلمه دنان الدقيق الثلاثة .. أما جندي درويش فكان يحلم بقهوة أمه كما يقول درويش: "يحلم قال لي بطائر بزهر ليمون ولم يفلسف حلمه، لم يفهم الأشياء إلا كما يحسها، يشمها يفهم قال لى إن الوطن أن أحتسي قهوة امي أن اعود فى المساء سألته: والأرض؟ قال: لا أعرفها ولا أحس أنا جلدي ونبضي كما يقال فى القصائد وفجاة رأيتها كما ارى الحانوت والشوارع والجرائد" متجاوزا حدود اللغة والتاريخ والسينما التقليدية فى عمله الفني، هذا الذي يقدمه بسبع لغات منها العربية والعبرية والأوردو يروي لنا المخرج النرويجي كيف واتته الفكرة: "لقد بدأت الفكرة بقصيدة تيري فيجن لهنريك إبسن ..وفكرة القصيدة من وجهة نظري تتمحور حول الانتقام.. حاولت ان أجد قصيدة معاصرة تحمل هذا المضمون وتطوره ...ونحاول التعرف على ما يدور بخلد إنسان يقوم هو بقهر الآخرين.. دققت فى العديد من القصائد التي كتبت خلال الخمسين أو الستين سنة الماضية .. وعندما تقراء قصيدة محمود درويش يتضح لك على الفور أنه ليس فحسب شاعرا عظيما يمثل شعبه ولكنك تكتشفت أنه ذلك الإنسان القادر على تجاوز حدود الزمان والمكان". ربما يكون البعد الإنساني هو السيد فى البحث عن هوية الروح بين إبسن ودرويش لكن السياسة تغلب إن لم يكن داخل الشاشات الخمس فربما تكون خارجها، فقصيدة درويش كتبت فى أعقاب حرب الأيام الستة عام سبعة وستين، وإبسن تحدث عن الإنجليزي المستعمر فى قصيدته. إسرائيل رفضت عرض العمل فى القدس بينما شاهده الآلاف في الضفة الغربية والأردن وقطر، فإلى أي مدى يختلط السياسي بالإنساني فى هذا العمل؟ قال هوج "إن البعد السياسي لا يمكن غيابه على الإطلاق.. بالنسبة لي يجب أن اناضل لتجاوز البعد السياسي الذي قد لا ينتج فنا في حد ذاته.. ربما يكون له تأثير قوي فى البداية ولكن ليس لديه القدرة على الاستمرارية.. يجب على الناس التفكير بشكل عميق.. وانا احاول خلال أعمالي ان أدفع الناس واحثهم على التفكير، فلو سطرت لهم الخطوط واضحة ستجد من يقول لك إنه معترض على ذلك ومن ثم يتجاهل العمل الفني؟ خمسة وثلاثون ألف متفرج شاهدوا هذا العمل السينمائي الفريد في النرويج والضفة الغربية والأردن وقطر، ويقول هوج إن العرض مستمر فى أوروبا والبلدان العربية فقريبا في دمشق وإمارة عجمان ومدينتي القاهرة والاسكندرية بمصر وربما وهذا ما يفكر فيه المخرج بجدية بالرغم من العقبات التي قد تقف في طريقه قريبا في قطاع غزة في تشرين الأول/اكتوبر القادم إذا أمكن رغم الحصار المضروب عليه. وعن رأى الجمهور فى اماكن العرض المختلفة وبلغاته المتعددة ..الإنجليزية والعربية والأوردو والعبرية وحتى اليابانية؟ قال هوج :"هناك إحساس عام يغلب على الجمهور في معظم اماكن العرض سواء هنا او فى الضفة .. ففى جنين على سبيل المثال وجدنا أن رد الفعل الأول كان مرتبطا بما هو محلي، لكنهم بعد ذلك حاولوا التوصل لجوهر الموضوع". "وعندما قدمنا العرض أمام أسرة درويش بعد أربعين يوما من وفاته شعر الجميع بأن درويش يؤبن نفسه مع اسرته، كان درويش موجودأ بحضوره الطاغي المسيطر على الشاشة، لقد كانت مناسبة خاصة للغاية". "أنا فخور بالعمل مع محمود درويش.. وأشعر ان علي واجبا أن أساهم فى الحفاظ على هذا الاسم الكبير". وأترك القاعة الصغيرة بعد لقائي بتوماس هوج وصوت فانيسا ريدجريف الحنون الهادئ يتردد صداه فى أذني ووجهها المتعب يذكرني بوجه امي فى الوطن البعيد حيث الصحراء والبحر البعيد الذي غاص فيها المخرج عميقا ليخرج بتلك الوجوه الحائرة التعبة على شاشاته الخمس وخرائب البيوت والزمن والحرب. أما درويش فكان محلقا هناك : "ترحل؟ والوطن؟ أجاب دعني..أحلم بالزنابق البيضاء بشارع مغرد ومنزل مضاء أريد قلبا طيبا لا حشو بندقية أريد يوما مشمسا لا لحظة انتصار مجنونة فاشية أريد طفلا باسما يضحك للنهار لا قطعة فى الآلة الحربية جئت لأحيا مطلع الشموس لا مغربها ودعني لأنه يبحث عن زنابق بيضاء عن طائر يستقبل الصباح فوق غصن زيتون يفهم قال لي إن الوطن ان احتسي قهوة امي ان اعود في المساء"