حين حطت الطائرة في مطار أبها فعلت ما يفعله كل الركاب من حولي، فتحت هاتفي لتفقد الرسائل والمكالمات الفائتة. كانت الرسالة الأولى خبراً يقول بأن قوات التحالف تصدت لطائرة مسيرة أطلقتها ميليشيات الحوثي باتجاه خميس مشيط، أي على بعد كيلومترات قليلة من ساحة المطار التي ازدانت بلافتات الترحيب بالقادمين لزيارة “موسم السودة”.. “مرحباً ألف” قالتها القلوب والعيون والحناجر، غير عابئة بالعبث الحوثي على الحد الجنوبي لهذه المنطقة الجميلة، فلم تتعطل الحياة ولم تعلن حالة الطوارئ، بل إن صفارة إنذار واحدة لم تطلق، الناس هنا كما في جميع مناطق المملكة تملك ثقة عالية بقدرات القوات المسلحة التي تحمي حدود النماء والرخاء والبهجة وتدافع عنها، بل إن لسكان المناطق الجنوبية جيزان وعسير ونجران علاقة وثيقة بالقوات المسلحة لالتحاق أعداد كبيرة من أبنائها في صفوفها. “موسم السودة” هو حلقة من سلسلة من المواسم التي شهدتها المناطق السعودية، بدءاً بالمنطقة الشرقية ثم جدةوالطائف، وقريباً سيكون هناك مواسم في الدرعية والرياض وحائل، غير ما يجري التخطيط له من مواسم ستغطي بقية المناطق على مدار العام، والهدف هو تعظيم الاستفادة من الميزات النسبية الطبيعية والثقافية لكل منطقة لشق الطريق أمام صناعة جديدة يخطط لها أن تكون ذات إسهام عالٍ في الاقتصاد السعودي، ولا سبيل أمام تنمية صناعة السياحة إلا أن تأخذ الدولة زمام المبادرة ليس فقط في تهيئة البيئة النظامية للمرافق السياحية، وهو جهد قامت عليه بكفاءة هيئة السياحة طوال السنوات الماضية من عمرها، وإنما بأخذ خطوات متقدمة نحو قيادة الاستثمار في هذا القطاع عبر خلق الأحداث والمناسبات الجاذبة التي تعزز من جاذبية المناطق الطبيعية بما يجعل من مناطق المملكة الساحلية والجبلية والصحراوية مكاناً مرحباً لرواد السياحة البيئية النظيفة حول العالم، وهم يشكلون نسبة عالية من مجموع 1,6 بليون سائح تتوقعهم إحصاءات الأممالمتحدة للعام 2020، والسياحة بحسب تقارير الأممالمتحدة هي أكثر الصناعات قدرة على خلق الوظائف، إذ تم إحصاء أكثر من 200 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة، أي ما نسبته 10 في المئة من مجموع الوظائف على مستوى العالم (إحصائيات العام 2000). وبحساب الرصيد الهائل الذي تمتلكه المملكة من المناطق الطبيعية والعمق الحضاري في تعدد المواقع الأثرية الفريدة وبالطاقة البشرية الشابة الخلاقة وتنوع النسيج الثقافي المدهش والملاءة المالية للاستثمار، فإن المملكة يمكن أن تنافس سياحياً على المستوى العالمي ليس فقط باجتذاب السائح السعودي، وإنما السائح العالمي، ولذا كان سيصبح من الهدر ألّا تركز رؤية المملكة 2030 على تنمية القطاع السياحي والمراهنة عليه في السعي لتنويع مصادر الدخل وتوفير فرص العمل للمواطنين، وهي الرؤية التي بشرت بالتحول من مجتمع ريعي إلى مجتمع منتج. في “مواسم السعودية” أثبتت الدولة جديتها بأن أخذت زمام المبادرة في قيادة القطاع، فاستثمرت بكثافة لإحداث الحراك بعد أن تجاوزت بعض الموانع البيروقراطية والحواجز الاجتماعية المصطنعة، وهذه الاستثمارات التي رأي البعض أنها مبالغ بها، أثبتت، حتى في الموسم الأول الذي اعتبر تجريبياً، صواب الرؤية. في “موسم الشرقية” سجل جسر الملك فهد حركة قدوم من البحرين الشقيق بأكثر من حركة المغادرين لأول مرة، وفي جدة شهد مطار الملك عبدالعزيز كثافة حركة طيران تقارب الحركة في مواسم الحج والعمرة، وفي الطائف كان من الصعب الحصول على غرفة أو شقة فندقية، وفي السودة سكن الناس في مقطورات مؤقتة وكانوا سعداء ومبتهجين. كل هذا الحراك الاستثنائي سيكون حراكاً عادياً حينما تكتمل توسعات المطارات والفنادق، وتكتمل المشاريع السياحية الكبرى في البحر الأحمر والقدية وغيرها. الملفت للنظر في المواسم التي حضرت جانب منها في جدةوالطائف والسودة، كان في آلاف الشباب والشابات السعوديين الذين يعملون بهمة عالية وانتظام دقيق لخدمة الزائرين، كما كان ملفتاً التنسيق الدقيق بين الهيئات المشاركة في تنظيم المواسم ومنها وزارة الثقافة وهيئة الرياضة وهيئة الترفيه وهيئة السياحة وإمارات المناطق والبلديات. روح مختلفة تجمع “خلايا النحل” في هذه المواسم، ويزول العجب حينما تعرف أنهم جميعاً يعملون بالروح التي وضع بها محمد بن سلمان هذه الرؤية، وأنه هو المشرف المباشر على عملهم. في الفندق الذي سكنت فيه في جدة قادتني قدماي إلى قاعة اجتماعات جلس فيها مجموعة من الشبان والشابات من هيئة الرياضة يخططون لحدث رياضي نوعي كنا نشاهد مثله على شاشات التلفزيون فقط، لكنهم وباحترافية حولوه إلى مناسبة نفذت على أعلى المستويات العالمية. وفي الطائف تحولت حديقة الردف إلى ساحة مهرجان الورد الذي ازدحمت ممراته ببائعي العطور الطائفية وبالفنانين الذين يعرضون لوحاتهم أو يؤدون عروضاً موسيقية وأدائية من الطائف والعالم، كما كان سوق عكاظ حدثاً عربياً استحق عليه مسمى “سوق العرب” بمشاركة 11 دولة عربية بأجنحة شاملة لتراثها وفنونها. أبو تركي السائق الذي استقبلني في مطار أبها، الذي قدم من مكة للعمل في الموسم، قال لي لن يكون هناك وقت لديك للمرور على الفندق، وقبلت نصيحته للتوجه مباشرة إلى رجال ألمع عبر عقبة الصماء التي تنزل بك من قمم جبال السودة إلى حضن الأودية، حيث ترتفع درجة الحرارة من 18 درجة في الجبل إلى 30 في الوادي. هناك قابلنا “رجال الطيب”، وهي تسمية عبقرية للمهرجان الذي يحكي ثقافة هؤلاء الرجال البواسل الذين بنوا قصوراً شامخة حجراً فوق حجر صمدت في مكانها لمئات من السنين، هؤلاء الرجال الأشداء فيهم من الرقة والشاعرية ما يجعلهم يعتمرون زهوراً ونباتات عطرية فوق رؤوسهم، يرقصون الخطوة على إيقاعات جميلة ويغنون قصائد عشق عذبة تتحول بسهولة إلى قصائد حماسية حينما يشعرون بما يهدد أرضهم، كما هم الآن على الحد الجنوبي فيزدادون طيباً على طيب. إنهم يصنعون البهجة وهم قادرون على حمايتها.