في ذلك الحي القديم في البلدة العتيقة تبقى تلك المسنة المقعدة في بيتها المتهالك ، هو ذاته الحي الذي كان مسكوناً قبل نصف قرن بأهلها وأقاربها وجيرانها المقربين ، تمضي السنون فتنبت الطفرة الريش لهؤلاء المتجاورين فيطيرون مخلفين وراءهم الذكريات وبيوتا طينية مهدمة ورائحة عبقة للزمن الجميل ، لم تنس هذه المسنة التي بقيت تقاوم الزمن كما تقاوم المرض وتقاوم عقوق ابنها الوحيد الذي اضطرها ذات مساء إلى أن تفتح صندوقها الخشبي المتآكل لتسلمه ما بقي من مال يسير وعقد ذهبي كان مهراً لزواجها وأساور رقيقة كانت تزين رسغيها الناحلين ، لم يبرح ذاكرتها مشهد فراق جارتها الودود التي كانت تحتضن جدران الطين وتبللها بالدموع في صبيحة يوم انتقالها إلى الحي الجديد ، كانت كلما انتقل قريب أو حبيب شعرت وكأنما ثلمة انثلمت من روحها المتعبة هذه الثلمة التي لا تعوضها الذكرى ولا الدموع التي تنسكب كلما مر طيفهم في خيالها المنهك. وكلما مضى عام خلف وراءه بيتا مهجورا ولوعة فقد في نفس هذه المسكينة كانت تصبر نفسها بين حين وآخر فليس بيدها أن توقف عجلة الزمن وليس بامكانها أن تعيد الشريط إلى الوراء هكذا هي الحياة نقبلها بكل تناقضاتها وظلمها ذلك الظلم الذي لا نستطيع ألبتة أن نوقف خنجره من أن يغمد في أجسادنا المسكونة بالألم والمغموسة بالوجع. تعلم من مذياعها القديم بدخول الشهر الكريم فيعتصرها الألم إذ أن المواسم والمناسبات تسحق الذاكرة حتى تصل إلى أعماق الروح لتنتشل منها أفواجا من الذكريات التي لا تملك هذه المسنة إلا البكاء تجاهها ولكن هيهات فلم يبق في محاجر عينيها مكان لدموع ولم يعد قلبها الضعيف يحتمل الكثير. يذهبون فيتركونها وحيدة تحيط بها آثار قديمة لا تصلح للسكنى ويحاصرها الغرباء من كل جانب ويشدد ابنها العاق عليها الخناق فيخطف حتى فتات الخبز من بين شفتيها اليابستين . وتعلم من مذياعها القديم بدخول الشهر الكريم فيعتصرها الألم إذ أن المواسم والمناسبات تسحق الذاكرة حتى تصل إلى أعماق الروح لتنتشل منها أفواجا من الذكريات التي لا تملك هذه المسنة إلا البكاء تجاهها ولكن هيهات فلم يبق في محاجر عينيها مكان لدموع ولم يعد قلبها الضعيف يحتمل الكثير أو القليل من الألم . يزورها أقاربها بين وقت وآخر كانت زياراتهم كثيرة لكن قل الزائرون ولم يعد يطرق بابها الصدئ إلا المحسنون وأهل الخير . يحدثني ذلك المحسن الذي يحب دائما أن يوصل أموال زكاته لمستحقيها بنفسه فيقول : ذهبت أسأل عن مكان بيتها في ذلك الحي العتيق فلم يدلني عليه إلا جارها الكفيف طرق باب بيتها بعصاه الغليظة وأخذ يناديها بصوت مرتفع ولا مجيب ليأتي طفل في هذه الأثناء ويخبرنا أنها في بيت جيرانهم على الناصية الأخرى من الشارع الضيق يقول : ذهبنا إلى ذلك المنزل وفي الطريق فاجأني الرجل الضرير أن ذلك البيت المتجهين إليه هم من بقي من أهلها الأباعد يأخذونها مساء كل يوم قبل الإفطار بكرسيها المتحرك لتفطر معهم وتقضي الليل بينهم إلى السحور ثم يعيدونها إلى بيتها وهم رغم ما يعانونه من الفاقة إلا أنهم يعتبرونها كأمهم يهتمون بها ويعوضونها فقدان الحبيب وظلم أولي القربى ، وصلنا ذلك البيت الصغير أخرجوها قرب الباب طبعت قبلة على رأسها وأعطيتها المال وانصرفت وأنا اسمع دعواتها التي لم تنقطع من صوتها المتحشرج الخفيض . ركبت سيارتي وخالجني شعور مختلف لكنني ابتهجت وعلمت يقينا أن الله لن يضيع عباده وسيجعل الله سبحانه من كل ضيق فرجا ومن كل هم مخرجا ، وأنه مهما طال الليل وازدادت العتمة فسيأتي الفجر وستبزغ الشمس وإلا فمن الذي سخر هذه الأسرة الفقيرة رغم ما يعانونه من العوز وضيق ذات اليد ليكونوا أقرب لهذه المسنة المقعدة من أهلها ؟ وكيف أعادوا إليها البسمة والأمل وعوضوها بالمودة والحب بدل الفقد والحرمان ؟ ومن الذي دعاني لأواصل البحث عنها لإيصال زكاة مالي إليها دون غيرها ؟ . twitter: @waleed968