لم أجد بداً من مقاومة الخاطر المسيطر علي من ذلك الحين، وبالرغم من أنني لا أحبذ الكتابة في المواجع والدموع، وقلمي لم يعتد على رسم الأحزان وتصوير المشاعر.. إلا أنني لا أجد لي من سبيل إلا أن أفعل، فأنا قد عاهدت نفسي على أن أكون أميناً في نقل الوقائع ولو كانت في غير ما أحب وأحبذ، وبث الحقائق ولو كانت محزنة أو مؤلمة في بعض الأحيان. لا أخفيكم محاولاتي العدول عن إثارة السواكن، وتجديد الذكريات الحزينة، لكنني والمواقف تتكرر، والدموع الغالية لا زالت تنساب بغزارة لا بد أن أمسك بالقلم وأنقل لكم ما أستطيع من حديث الدموع الساخنة، واللآلئ الثمينة التي هي أغلى وأثمن وأندر ما يكون لدى الرجال تجاه فقيد عزيز أحبوه فعلا، وأسكنوه سويداء قلوبهم. يقولون إن الدموع التي يجاهد صاحبها في حبسها ومداراتها لا تذرف عن ضعف، ولا يمكن أن تفيض بسهولة، بل هي قوة تحطم صلابة الحواجز وتعبر عن قوى صاحبها الخفية ومشاعره الحقيقية، وتلفت كذلك إلى دموع صامتة تسيل بغزارة في جوف صاحبها، وتغتلي في قلبه وحسه وفكره. فالرجال لا يبكون لأي أمر حصل، يعجزون كثيراً في كبت مشاعرهم عندما يكون الأمر جللا، والفقيد عزيزاً سكن القلوب واحتل الوجدان، حتى في حال تذكره يعجزون أيضاً عن كفكفت دموعهم، فيعبرون ولكن ما أشد وقعه من تعبير عندما لا يكون إلا من نافذة العين دموعاً سكيبة، وآهات متدفقة لا حول لهم ولا قوة إلى حبسها، أو إيقافها على الأقل. هكذا كان حالنا عندما فقد الوطن رجله المخلص، صاحب القلب الرحيم واليد الطولى.. حالا من الحزن المتربع، والوجوم المتلبد، والحيرة التي دبت في مختلف الشؤون والحياة، حتى اهتزت مشاعر المخلصين فسالت دموع بأفئدتها، وتحشرجت كلمات المحبين فاختلطت دموع الحناجر بكلمات المنابر فتنادوا. كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر .. فليس لعين لم يفض ماؤها عذر كان الحال ذلك وأكثر لأن الفقيد كان سلطان، ومن منا لا يعرف الخير سلطان، لأن الراحل كان يعيش في قلوبنا وخواطرنا، فترك برحيله فراغاً كبيراً أحدث تلك الهزة الفاجعة في النفوس، والجراح الغائرة في القلوب، ترك برحيله أثراً عميقا بعمق مكانته وعطائه، فتعالت تمتمات الألسن بصفائه وصفاته التي كانت هي رسله للناس كلهم، يبادلهم من خلالها ألون الحب والوفاء، والكرم والعطاء فشغلهم بحبه حياً، كما شغلهم بالحزن ميتا، فرحمك الله يا شاغل الناس حيا وميتا. في الثالث والعشرين من محرم الماضي كان صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز على موعد مع مؤسسة الملك خالد الخيرية ليتسلم جائزة الملك خالد فرع الإنجاز الوطني الممنوحة لوالده رحمه الله تقديراً لمآثره الخالدة التي تتحدث عن نفسها، وإسهاماته التنموية المتنوعة داخل الوطن وخارجه، وفي ذلك الحفل الكبير الذي حظي برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد ووزير الداخلية تقدم مقاتل الصحراء ورجل المهمات الصعبة ليلقي كلمته فلم يتمالك نفسه، وبدا يغالب إحساسه، ويقاوم أنفاسه وعبراته ولكن هيهات هيهات، ولسان حاله: وليس الذي يجري من العين ماؤها.. ولكنها روحي تذوب فتقطر وفي التاسع والعشرين من ربيع الأول الماضي كنت في مؤتمر الزهايمر الذي عقدته الجمعية السعودية لمرض الزهايمر برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز نائب وزير الداخلية، وقد كرمت الجمعية مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز لدعمها ومساندتها للجمعية منذ أن كانت فكرة، إلا أن هذا التكريم لمؤسسة الراحل يرحمه الله أثار شجون الأمير نائب وزير الداخلية، وأجج مشاعره الكامنة، فبدا هو الآخر يغالب أوجاعه، ويخفي عبراته.. وكأنه يقول: إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده .. ولوعة حزن أوجع القلب داخله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى .. فأنت على من مات بعدك شاغله أو كأنهما يقولان حفظهم الله لنا: كأن دمعي لذكراه إذا مرت .. فيض يسيل على الخدين مدرار أجل، لقد هز ذكر الأمير سلطان قلب أخيه الأمير، وعصفت بكيانه الذكريات القديمة، فانبجست لواعجه، واستهلت دموعه تتدحرج في قلبه قبل وجنتيه.. فرحمك الله يا من حفرت اسمك في ذاكرة الأقارب والأباعد، ورسمت بابتسامتك الجميلة صوراً رائعة، ومشاهد نادرة تعيش في أفئدة الناس صفاء وعطاء، وكرما ووفاء، ويعيش فيها الناس ذكراً حسناً، وثناء ودعاء.. فرحمك الله يا من تسيل عليك دموع المحبين، وتبكيك دموع المرضى والمساكين.. رحمك الله يا من كنت صديق المحتاجين وعوناً للضعفاء والمعوزين.. رحمك الله أيها الأب الحنون، ومهما كان من دمع حزن، وألم دفين سنظل نذكرك بالثناء وبالدعاء على مر السنين، فنم قرير العين فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. صمت الحزين بكاء لا تحس به .. إلا القلوب التي جارت مآسيها تبكي بلا أدمع إن الدموع إذا .. تمكن الحزن جفت في مآقيها