قديما، إذا شارف المسجد الطيني في القرية أو المدينة على الاكتمال، لا ينسى البناؤون وقبلهم المتبرعون «تصنيع وتوريد وتركيب» وسيلة من وسائل الحماية ضد الخفافيش التي كانت تكثر وتتوالد في المساجد وتزعج المصلين، وتُلقي بالمخلفات على أرض المسجد وفي كثير من الأحيان على رؤوس المصلين خصوصا أثناء صلاة المغرب. تلك الوسيلة «الوقائية» كانت بجلب كرات أحسن تهذيبها من نبات العاقول، وهو نبات شوكي ينبت بكثرة في محيط المزارع في البلدة. يُعلقون تلك الكرات بشكل مستقيم، بقوة في خشب سقف المسجد. وعادة تكون أكثر من خمس كرات، أو على حسب المساحة الطولية للمسجد. وكنا في صغرنا نرقب نتائج ذلك الجهد المتعوب عليه، لكننا لم نشاهد أية نتيجة ملموسة، أي أننا لم نر خفاشا واحدا جرى «اصطياده» بتلك الوسيلة المتفتقة عنها أذهان أهل القرية. وأصبح تعليق كرات أشواك العاقول هذا جزءا من «العمل الإنشائي» في ذلك الزمن، في المساجد فقط وليس في مكان آخر. ذلك لكون رواد المسجد عرفوا مسبقا أن الخفاش يحتاج في تجواله إلى مساحة واسعة ليعمل إحساسه التعرجي وطيرانه المختلف عن غيره. لكن الناس في ذلك الزمن لم يدركوا أن الخفافيش عندما تطير ليلا للبحث عن الطعام وتشم وتسمع وتصدر أصواتا ترددية مرتدة لتهتدي بها وتتعرف على طريقها وتتجنب الارتطام بعائق يعترضها، فهي تعتمد في طيرانها على نوع من السونار الذي يعتمد على التنصت لصدى الصوت ليهتدي به في طريقه. فيصدر الخفاش نبضات صوتية قصيرة لها تردد عال فوق قدرة الإنسان أن يسمعها بأذنيه. فتنتشر موجاتها أمام الخفاش الطائر. فترتطم بأي عائق في طريقه فترتد الأصوات كصدى ليترجمها بسرعة ويقدر المسافة بينه وبين هذا العائق وسرعته بالنسبة للبعد منه وحجم الأشياء من حوله ولاسيما أثناء الظلام. فيدير اتجاهه متجنبا الاصطدام به. تلك الحقائق العلمية من إلهام رباني لم يعطه الله للبشر فقط بل منحه للحيوان محافظة على بقائه ووسيلة دفاع ذاتية يتجنب الطائر من خلاله أعمال من يحاول نصب شرك لقتله. ثم ظهر من البحوث والاستقصاءات أنها (أي الخفافيش) عدو شرس لأنواع كثيرة من الحشرات الناقلة للأمراض. الموضوع هنا إيحاء بأن العلوم والنظريات والبحوث العلمية في السابق وشدة الحاجة إليها لم تأتنا بالسرعة التي هي عليها اليوم، وهذا في رأيي راجع إلى أن قناعة الناس بالجديد ليست بالسرعة التي توازي أهمية الاكتشاف. أو لنقل: إن الاكتشافات العلمية سابقا كانت تمشي على الأقدام. أما الآن فهي مع البرق في سرعته.