اسمحوا لي أن أعتذر من ابن زيدون الأندلسي عن استعارة شطر بيت له عنواناً لهذا المقال، حيث إنه شطر يوجز وجهاً من أوجه التغير الاجتماعي في حياتنا المعاصرة، وإن كان مقام قصيدته تلك مقام وجد ولوعة. فحياة الإنسان ككائن اجتماعي تتأرجح بين التنائي والتداني. حتماً إن هذا التأرجح ليس بهذه الحدية، قطع أو وصال، إذ تقتضي الحكمة أن يوازن المرء تواصله الاجتماعي بلا إفراط ولا تفريط. في الماضي القريب كان المرء المنزوي بمعيّة كتاب يوصم بالانطوائي، حينذاك إما أن يلتهمك المجتمع التهاماً كاملاً أو تصبح منبوذاً بالاختيار. فالدور الاجتماعي التقليدي للإنسان أن يكون متاحا دائما للغير، وأن الجماعة مقدمة على الفرد، هو دور يتعرض لعملية تقويض تدريجي خلال العقود الماضية، بدءاً من تغير نمط الحياة وطريقة العيش والهجرة الداخلية بين المدن التي قلصت من تعرض المرء لسطوة التقاليد الاجتماعية حتى ظهور الثورة التقنية في التواصل الاجتماعي. واعتادت الجماعات عند وصولها المدن أن تخلق فضاءها الاجتماعي الذي يعزز أواصر القربى بينها. لكن التقنية كانت المتغير الذي قلب المشهد رأساً على عقب وخلق تشظياً على مستوى العائلة الواحدة والجماعة ككل. لا شك أن تلك الوسائل نشأت في سياق اجتماعي مختلف، حيث الفردية هي القيمة الأولى وحرية الاختيار الاجتماعي هي الأساس. ولكنها أصبحت جزءا من كل سياق اجتماعي معولم. وهذه الظاهرة تدخل في مواضيع الفلسفة الحديثة والعلوم الاجتماعية المهتمة بوضع الفرد في عملية التغير الاجتماعي. فجيل تقاليد ما قبل التقنية يرى في التداني المستمر الاطمئنان والأمان النفسي والأصالة، وفي تنائي التقنية الخوف والقلق والأقنعة. الظاهرة طبيعية في سياق اجتماعي غربي لأنها تأتي ضمن النظام القيمي الحاكم للمجتمع، ولكنها حتما ليست طبيعية في سياق اجتماعي ذي كثافة عالية في التفاعل والتواصل التقليدي. انغماس المرء تماما بهذه التقنية محتضنا جواله الذكي، وهو محاصر بالجماعة وفِي ديوانيتها يعكس انفصاما صريحا وعدم قناعة مكبوتة لهذا الشكل من العلاقات التقليدية، فهو بينهم جسداً، وفِي عالمه الافتراضي روحاً. وربما تحولت الديوانية لاحقا إلى «قروب واتساب». ومن أوجه الضرر غير المقصود للتقنية الحديثة أنها أصبحت محل اشتباك عائلي واجتماعي، حيث الجميع يراقب مزاج ويوميات الجميع عبر ثقب تطبيق اجتماعي في هاتف جوال متكئ على كف أحدهم. المأزق مأزق جيل جديد لا يعرف ماهية وكيفية التواصل الاجتماعي الحقيقي، جيل صامت في حضرة الناس، ثرثار بين يدي تطبيقات التقنية. فأصدقاء أولادك الافتراضيين في قارة بعيدة أقرب لهم منك، وأكثر تواصلا معهم منك. جيل له قاموسه الخاص، ومفرداته الجديدة، تخاله جيلا خجولا لا يحسن الكلام والتفاعل الاجتماعي بينما هو جريء متفاعل في عالم افتراضي. المسألة هنا ليست حنيناً رومانسياً لماض نعتقده جميلاً، ولست في وارد الحكم هنا بالسلب أو الإيجاب، بل مقاربتها كتغيير اجتماعي قائم يفترض فهمه. فإعادة التوازن بين تداني التواصل وتنائي التقنية تحدٍ من تحديات التربية الحديثة في المجتمع. [email protected]