لا يمر يوم إلا ونصادف كلمة (التعايش). نقرأها في مقالة. أو نسمعها في حوار تلفزيوني أو حتى في فضاء اجتماعي. نطالعها كسؤال، أو كمقترح، أو كفكرة يُراد لها أن تتحقق على أرض الواقع. وهو مطمحٌ لا يمكن أن يحدث بدون استيعاب مثلث العلاقة الكفيل بتحقيقها. إذ لا بد من التواصل مع الآخر أولاً، ثم التفاوض معه، وصولاً إلى التعايش معه. ولا شك أن الاختلافات الثقافية هي المبرر للتواصل وانتفاء التسالم في آن. وهذا هو ما يحدث في مجتمعنا. الذي لا يسعى الفرد فيه إلى اقتسام القيم المادية واللامادية مع الآخرين الذين يشترك معهم في الوطن وخيراته، بل يبحث عما يُلحقه بجماعته. إذ يجمع من الأدلة ما يكفي لإثبات اختلافه ليمتنع عن التواصل. يتم التواصل من أجل إغراء الطرف الآخر بمقترح حياتيوالمفارقة هنا أن أدوات التواصل التي أصبحت من السهولة والوفرة بحيث تحقق معادلة التفاهم بين الفئات واحترام الهويات، قد تحولت في مجتمعنا إلى وسائل فُرقة وكراهية. وعوضاً عن تسريع عملية التواصل وتوسيع قنواتها صارت تبنى الحواجز. وذلك نتيجة انتصار الإعلام، الذي يلتبس كمفهوم بمعنى ووظيفة التواصل ويجيد خلق معازل اجتماعية متنازعة مع بعضها البعض. يتواصل الناس فيما بينهم من أجل تبادل وتقاسم القيم المادية والعاطفية. وأحياناً يتم التواصل من أجل إغراء الطرف الآخر بمقترح حياتي مغاير من خلال التلويح بقيمة جديدة. وقد يصعد الأمر ليصبح التواصل محاولة للإقناع عبر المحاججة والاعتراض واستخدام المنطق. وفي المحصلة يشكل التواصل حالة من حالات التفاوض لاقتسام العواطف والأفكار والمصالح المادية. وهذا هو بالتحديد ما يخلق التعايش. كل طرف يرمي يومياً آلاف الرسائل باتجاه الآخر. وهي رسائل تصل حتماً، ولكن ليس بالطريقة التي تحرث أرضية التعايش. لأن التواصل عملية معقدة أصلاً. وغالباً ما تسقط بعض مزايا ومرادات الرسائل نتيجة ضعف الإرسال، أو سوء التلقي، أو رداءة أداة توصيل الرسالة. إلا أن الأهم في هذا الصدد هو عدم وعي المتواصلين في مجتمعنا بمعنى وأهمية التفاوض، الذي يعتبر أحد تجليات ثقافة الديمقراطية. وهو مبدأ تتأسس علائقه ومقاصده في البيت والمدرسة ثم المؤسسة بمعناها وشكلها الاجتماعي. لا يمكن لأي فرد في هذا الوجود أن يعيش بدون تواصل. وهذا يحتم عليه أن لا يحبس مفهوم التواصل في دائرة التعبير عن الرأي. بل لا بد أن يعيش قناعة التساوي مع الآخرين. ويقر بحقهم في مفاوضته. بمعنى أن يكون في داخله منسوب من الاحترام لأفكار المخالفين له ومزاجهم وسلوكهم. وهذا هو أساس كل تجربة إنسانية أو اجتماعية. ويبدو أن فئة عريضة من مجتمعنا لم تتقدم باتجاه تطوير مفهوم التواصل الذي تربت عليه، إذ لم تدفع فكرة التقاسم ناحية التفاوض لبلوغ مرحلة التعايش، وهذه نتيجة طبيعية لعدم وعي هذه الفئة، التي تبدو متسيّدة للمشهد، لفكرة التواصل سواء في مجال الحريات الإنسانية، أو في النماذج الديمقراطية، أو التقنيات. بل العكس هو ما حدث حيث تم استخدام تلك المكتسبات الإنسانية بشكل سيئ. والأسوأ من كل تلك الارتباكات الاجتماعية ازاء مفهوم التواصل، ظهور النزعة الاقصائية الجماعية. حيث تتواصل الجماعات بموجب ذلك المنطق الإلغائي الإقصائي. وكذلك صعود النزعة الفردية التي يكتفي فيها قطاع عريض جداً من الأفراد بالتعبير عن آرائهم والتفاعل عن بعد. بدون أدنى رغبة لا في تقاسم العواطف، ولا في التفاوض على فكرة، ولا التعايش مع الآخر. مع جنوح واضح للانغلاق ضمن كهوف افتراضية. هكذا تأسس مجتمعنا الجماهيري المنفتح على نزعات فردية، منفصلة عن بعضها البعض. وباختلافات لا مبرر لها. والمفارقة أن كل ذلك حدث تحت مظلة التواصل، المزدحمة بالمعلومات والمعارف. المزودة بأسهل الطرق وأسرعها للتفاهم بين الأفراد والجماعات. وهذا هو ما يفسر جانباً هاماً من هشاشة البنية الاجتماعية. التي تتأرجح في فضاء عمومي بلا وظيفة. حيث توقف الإتصال هنا عن أداء مهمته الكبرى وهي إدارة الاختلافات باتجاه التعايش. الذي ينبغي أن يكون صورة من صور الرابط الاجتماعي الأحدث ورؤية جديدة للوطن وللزمان والمكان الذي نعيش فيه. [email protected]