« الحقيقة هي مفتاح من مفاتيح المعرفة والمعرفة هي الحرية...سأذهب من أجل المفتاح.» : أمام قراءة قصة كبيرة في حجمها شكلا ومضمونا، تسمى « الحقيقة « للكاتب « محمد إقبال حرب «، مستغلة –القصة- في ذلك منطق الطير، بل مؤنسة له من خلال اللغة والفكر والرابط الذي بينهما وما يتصل وينفصل، وذلك من أجل خلق صورة مغايرة لما هو معهود ومألوف، بغية إجلاء معالم الحقيقة، التي هي مقصد الإنسان والحيوان والطير وكل شيء... يأتي التخييل الحدثي للقصة، التي أخذت القضية في شكلها الكبير والعميق، وواقعية الشمول القصصي متواتر الوقع، طبقا لمنطق الإبداع الأدبي، هذا ما يبدو من خلال قصة « الحقيقة «, التي جاءت غريبة الشكل والمضمون. وإذا تتبعنا خطواتها نجدها تجمع بين خليط من أجناس أدبية مختلفة من الحكي وأدب الخرافة والأسطورة والمسرح والسيرة قليلا ما، بشكل فنطازي أو بغيره، تراعي حدود الرسالة السامية ومتطلباتها، متماشية مع التوجهات العامة للآداب. بمعنى آخر، «رسالة الأديب والأدب عامة، تجاه المجتمع الإنساني الكبير والعريض»، إلا أن الشخصيات الواردة ذكرها في القصة، التي نحن بصدد قراءتها من منظور مختلف، نجدها طيورا بلغة منطقها، لكن بلغة يشهد لها بالتداول اللساني والمرتبط أساسا بالفكر الإنساني. موزعا الأدوار عليها متخذا لها أسماء ذات أبعاد ودلالات وإيحاءات لتأدية الغرض المراد منه إبراز الحقيقة، وهي: «حفار» يحفر بحثا عن الحقيقة المدفونة في الأعماق، « نقار» ينقر من أجل إسماع صوت الحقيقة..» سهم» يصيب الحقيقة برمية مسددة في الصميم، نظرا لتوفره على نظر ثاقب للأشياء، «الزعيم» الذي تزعم السياسة الحقيقية بغية تحقيقها، «المدرس» يدرس ويتدارس فيما يفضي إلى الحقيقة أينما وجدت..، إلا أن الحقيقة هنا مختلفة ومن نوع خاص، بل فريدة من نوعها، أحدثت ضجة غريبة ومنظمة اسمها قصة « الحقيقة « بما هي طويلة الشكل، دون أن يغفل صميم الموضوع وكيفية تصميمه بشكل متساوي الأضلاع، هندسة رمزية وجبر معنوي لفشل اجتماعي كبير... كما يعتبر الموضوع وليد الفضاءات في إطار فترة زمنية معينة غير محددة ، ما يعني درسا صالحا لكل زمان ومكان..ذلك أن الحقيقة تلوذ دائما بالغياب وعلينا أن نبحث عنها. لاسيما أنها تتجسد وتظهر أحيانا ثم تختفي غالبا...إنها الحقيقة السامية في مفهومها الفلسفي، وليست الحقيقة في مفهوما التداولي لدى العامة من الناس. القصة متمكنة من رصد كل الجوانب التي لفت المحتوى كليا، إذ المحور الرئيسي هو « الحقيقة « ومن خلال شخصياتها حسب صياغة وتصورات الكاتب لها، وأيضا حسب زوايا نظره، عبر منحنيات شتى، ربما يود عن طريق الرصد بالأسلوب من أجل استدراك المعنى، مؤديا في ذلك وظيفته العمودية والأفقية في تجليات رسالة القصة.. و ما ميز (القصة)،هو معالجتها موضوع « الحقيقة « بأدب الأسطورة والخرافة من أجل تأكيدها، ورفعها كشعار يستقيم به حياة الإنسان، مستغلا في ذلك طيورا من نوع الدجاج والديكة لضرب الأمثال، واضعا لها منطقا مقبولا وحوارا ذا دلالات كبرى فهمية، هنا تبدو قدرة الكاتب في أن يوجه المجتمع بالمنطق القرائي إلى تجديد الوعي الإنساني، وتبيان التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية وكذلك التكنولوجيا التي اكتسحت هذا العصر الراهن بعنصر السرعة والطيران... ! ومن ذلك يقول الكاتب على لسان أحد الشخوص (مهما كانت نوعها) في القصة : « يجب أن أكرس حياتي من أجل الحقيقة التي أشار إليها سيدنا «نقار». المدرس : أجل سيدي، الحقيقة هي ما نحتاج إليه الآن، حقيقة وجودنا في خطر. المؤامرة الكبرى التي يدعمها خونة وقتلة، لا ندري كنهها، علينا أن نعرف الحقيقة الكبرى في عدم قدرتنا على الطيران بل كيف سنطير. سأكون دوما مساعدك ومستشارك الأمين. حفار: بلا شك، ستكون دائما إلى جانبي حتى نصل مبتغانا. لكن علي أن أكون في خلوة مع نفسي كي أعرف من أين سأبدأ في بحثي عن الحقيقة. « وكأني بالكاتب هو الآخر يبحث عن الحقيقة من خلال إدراج هذا المقطع المهم داخل هذا النص الإبداعي المتميز، والمتألق في فلسفة البحث والتأمل داخل مدار الإبداع الفني، متخذا شكل القصة كوعاء يصب فيه بعضا من الأجناس الأدبية الأخرى، ليغير الطعم والمذاق اللذين ألفناهما في القصص الأخرى التي اعتمدت مقومات بنائها، فقط وملتزمة بها. مع استعمال التقنيات التي تميز الكاتب عن غيره في الكتابة القصصية بالخصوص. البنية اللغوية : تماشيا مع واقع الحداثة، فإن الكاتب لم يغفل التجارب القديمة تجارب الماضي كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة لابن المقفع، وسيرة سيف بن ذي يزن, إذن ما نلمسه في النص تكثيفا لغويا، كما أنه جمع في أسلوب كتابته بين القديم والحديث، معيدا الاعتبار للقصة التقليدية بالدرجة الأولى مع الاحتفاظ باللغة الأدبية القديمة في قالب حداثي متنوع حسب مصلحة واقع الحال، بين الأشكال الرمزية و أخرى مباشرة واضحة على مستوى الأسلوبية. إذا كان الخبر يحتمل الصدق أو الكذب، فإن بإمكاننا اعتبار الخبر القصصي هو كذلك، دون الدخول أو الخوض في تفاصيل اللعبة الحبكية والحوارية وكذلك التصويرية إن شئت، يدعو الأمر إلى إعطاء القيمة الكلية للأدب عامة شعرا ونثرا. مادام الأمر برمته يدعو إلى معالجة القضايا الإنسانية في مجالات الحياة العامة. فتركيبة النص حسب التصور هي بحسب تركيبة المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه، باعتباره العامل الوحيد والأوحد المتدخل في نتاج النص لغويا، أما أسلوب كتابته فهي صورة حياته .. البنية السردية : اعتمد الكاتب أسلوبه السردي طبقا للهاجس الذي يلاحقه، فيطبع آثاره، أي السرد الذي يأتي من تلقائه نظرا لتأثير موضوع الحقيقة في غيابها وحضورها، في خضم هذا المجتمع الكبير، الذي أضحى إشكالا له خطورته.. على أي، أتت البنية السردية متماسكة لبناء الحقيقة من خلال المقومات القصصية في الوصف والإثارة انطلاقا من بؤرة الحدث، والتحكيم لصنع قرارات الحكمة النفاذة لبلوغ المرام. فلم تكن من طريقة تغلب عليه، إلا اختياره الأسلوب السردي مع تنامي أسئلة الذات وقلقها، ما أعطى الحوار الاستدراجي داخلها الأهمية بمكان، كما نشير هنا إلى أهمية النفس القصصي لدى الكاتب والتأني في طلق عنان خياله، ليربح رهان السرد ككل مرة، زد على ذلك السياق الذي ظل على وثيرته محتفظا بالإيقاع داخل البنية السردية كما ينبغي ، ومن ثم وضع لنفسه الطويل، استراحات جمالية في التركيبة، مقسما إياها بعناوين ذات أبعاد دلالية وإشارية مبتدءا ب»بداية همس» كاشفا «سر البعد الآخر» ثم «دق الإسفين» ليصل إلى «فصل من حقيقة» منتهيا ب «همسة أمل» وليس هنا إلا الأمل. وقد لعبت البنية السردية بإيقاعها المتناغم دورها للقارئ، ليبقى مرتبطا بالأحداث برابط الحقيقة التي هي مبحث ومطلب كل إنسان.. تأتي القصة في شكلها مغايرة لما تسمى بالقصة قصيرة ، التي تدخل غمار التفاصيل والرصد كما هو الشأن في الرواية العربية عموما. حيث اتخذ هذا النص السردي مسافة طويلة مثل قصة « تلك الرائحة « للقاص والروائي «صنع الله إبراهيم»، لكنهما يختلفان من حيث المضمون والشخصية..، وقلة قليلة من تجدهم مغمورين بهذا الشكل القصصي الطويل، بل من يتوفرون على نفس طويل وصدر واسع ورحب للدخول إلى مثل هذه التجربة، وتحمل مشاقها . إن كتابة أو قراءة، في مقابل القصة قصيرة جدا المسماة بالقصة الومضة، التي تعتمد الاختصار والاختزال لغرض فك الملل والسآمة، يمكن أن نقول في القصة الطويلة، أنها تميل كل الميل في تحضير التخييل المتمكن لإجراء هذا العمل الأدبي المتميز في شكله، جعل السرد فورة حيوية لتغيير حياة الجماعة مهما كانت داخل هرمية المجتمع العربي الكبير. إنه سؤال الحقيقة في مستواه البلاغي والفلسفي، هو مبعث تأسيس هذا النص المتألق باعتبار أنه مشروع البناء المجتمعي...، فقد عشنا لحظاته، في كل إشراقه الأسلوبي السردي، والبناء اللغوي، وكذلك الحوار البناء داخل مشهد هذه القصة، التي تثبت رغبة البحث انطلاقا من السؤال عن الحقيقة...