يبدو أن مركب الدوحة تشتعل فيه النيران ويبحر بعيداً عن أي ميناء، باتجاه الأمواج العاتية، ومواطن القروش والمهالك، والسراب الخادع. كنا نأمل أن تنتهج الدبلوماسية القطرية التدبر والحكمة وترتقي إلى مستوى خطورة الأوضاع على قطر نفسها، وأن تعرف أن الذين هرعوا إلى الدوحة وعرضوا خدماتهم، لم يعرضوها حباً في قطر أو من أجل سواد عيون القطريين ولا إعجاباً بمؤهلات الدوحة ومكانتها الدولية، وإنما لاستخدام قطر ورقة في لعبة تكتيكية، وهم الرابحون. الآن إيران تعرض تقارباً خجولاً مع الدوحة، وسبق أن جربت قطر هذا العرض الإيرانيمرات عديدة، وتظاهر الإيرانيون انهم مع قطر قلباً وقالباً ويدلون بتصريحات مثيرة حول دعم قطر وحمايتها. لكن ما أن جاءت فرصة لتحسين العلاقات مع السعودية رمى الإيرانيون «الكرت» القطري ونسوه. وفي كل أزمة قطرية، على مدى عقدين، يعود الإيرانيون للعب الكرت القطري. وهم الآن يعودون، بدعوة كريمة من الدوحة، للعب الكرت وهدفهم، في النهاية، تحسين علاقات مع السعودية لا أكثر. لأنهم ببساطة يمكنهم أن يرموا الكرت مرة أخرى، كما يفعلون دائماً، وهم الرابحون. بل إن إيران تبدو الآن متلكئة في دعم قطر لتفادي مواجهة مع الرياض، بل تسعى لتحسين العلاقات، وذلك أهم من قطر وإخوانها، على الرغم من ان قلوب الإخوان وعقولهم وهواهم مع خامنئي وحرسه. وأولى نذر التوظيف الإيراني للكرت القطري، في هذه الأزمة، وبداية حرق المراكب القطرية، هو دعم الإعلام القطري للإرهابيين في العوامية. وحكاية تسييس الحج التي يبدو أن القطريين ندموا على طرحها بعد أن وجدوا استنكاراً إسلامياً عالمياً. وهذه أعراض انتحار وليست دبلوماسية. أملنا أن تتدبر الدبلوماسية القطرية الأحوال، وتدرك إن إمكاناتها فقط مال، وليس غيره، وأن أيام أوباما «الإخوانية» ولت ولن تعود. ولو عادت الأوبامية، فإن قطر لم تعد كما كانت، والإخوان احترقوا بعد فشلهم في مصر وبعد الازمة الأخيرة. أنجح الدبلوماسيين هم الواقعيون الذين يكيفون الحلول حسب الممكن، وليس حسب الأماني. وأسوأ الدبلوماسيين هم الذين يخترعون أوهاماً ثم يتخيلون أنها واقع. الحكمة تقتضي أن تتخلى قطر عن الأوهام، وتمارس دبلوماسية واقعية تركز على المصلحة القطرية، وهي أنه لا بديل لقطر عن المملكة والإمارات والبحرين، مهما كانت الأوضاع والظروف والمواقف، وليس بعدها إلا الطوفان الذي سيلتهم مركب قطر أولاً، وأن ما يبدو لقطر قسوة من المملكة والإمارات هو في الواقع ألطف وأقل وجعاً من مكرمات خامنئي، وحتى أكثر كرماً وكرامة من ملاحقة تيلرسون والتشفع به وانتظار تصريحاته. وإذا لم تحسن قطر علاقتها مع المملكة والإمارات والبحرين، وحتى مع مصر، فإن المركب القطري يبحر في رياح هوجاء وظلمات لجية ولا أحد يستطيع إنقاذة، لا الإخوان ولا أي من معسولي القول. المشهد ينذر بالسوء، فحتى الآن تبدو قدرات الاستحواذ الإخواني أقوى من كفاءة الدبلوماسية القطرية. بل بدت نذر هذا السوء، حينما قررت الدوحة مواجهة مصر وجيشها، ولي ذراعها، وانتهجت سياسة إعلامية خرقاء تهدف إلى استسلام مصر لمشيئة الدوحة وإعادة محمد مرسي والإخوان إلى الحكم، بينما حتى السعودية وإسرائيل وتركيا وإيران، في أوج الأزمات مع مصر لم تواجه حكام مصر بهذه الحدة القطرية المتفلتة. لأن مصر، أيا كان حاكمها، بلد قوي ومؤثر وقيادي في العالم العربي. وتر نوارس الخليج، الحزينة تودع الموج ومراكب، ووجوه بحارة.. ومرافئ شجن.. لتحلق في الفضاء الأزرق إذ العلو سمو والسماوات وطن..