تلفت حيث اعتدت أن أراه متربعا على كرسيه في الباب العالي: «يختال ضاحكا من البشر» فعاد بصري «وهو حسير». ترى إلى أين ذهب؟ هكذا سألت نفسي، وما السبب في هذا الاختفاء مثل قمر في ليالي المحاق. كان كل من هب ودب وكره وحب يلهب حنجرته ببيت المتنبي «عيد بأية حال عدت يا عيد» ثم يكمل مقاله بالأنين من غلاء البصل واحتكار العدس وتكبر البقول على جيبه، أما الآن فقد غاب بيت المتنبي فقط وبقيت الشكوى على شبابها.. لماذا أصبحوا عشوًا «جمع أعشى» هكذا سألت وغصت في آفاق الاحتمالات: أولا: الاحتمال الكلاسيكي: وهو أن الكتاب البواسل قد أصيبوا بضعف البصر، ومر العيد ولم يبصروا خطاه البيض، أو أنهم فقدوا الذاكرة الجماعية فنسوا المتنبي وعيده، وهذا أمر أشبه بالقدر اليوناني. ثانيا: الاحتمال الرومانسي: وهو أن الناس جميعا أصبحوا ينشدون البيت، كل واحد مع نفسه، من شدة الفرح أو حتى الحزن الأبيض فاستراح القراء من أصواتهم الفيحاء أما بعضهم فقد نسي أن هناك عيدا محددا تنشد فيه فيروز: «ياربي تعيد خيرك وتزيد عالدنيا كلا أيام العيد» وأصبحت الدنيا كلها أعيادا بيضاء أو سوداء، ولا فرق. ثالثا: الاحتمال الواقعي: الواقعية ذات إغراء آسر، لأنها تتركك حرا في الاختيار وكأنك في سوق تنفتح ذراعاها بقدر تحمل جيبك: فهناك الواقعية البسيطة التي هي انعكاس الحياة اليومية للبشر، وهناك الواقعية النقدية ثم عدد ما استطعت أن تحصيه من أقسامها، وهكذا فعلت حتى التقيت وجها لوجه بالواقعية السحرية فقلت: «ألا يا مرحبا بش وبهلش وبالجمل اللي رحل بش» لأنها تلتقي فيها الواقعية اليومية التي يسمونها الثنائية والواقعيات الأخرى بنسب مختلفة.. لذا سأسير تحت ظلال الواقعية السحرية. بينما كنت أسير في الفضاء، قريبا من زحل، رأيت المتنبي هناك فسلمت عليه، متذكرا أنه قال: «في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل» مستغربا أنه هنا، وحين سألته قال شبه معتذر: لا غناء عن الشمس، وقد قلت «ومن قصيد البحر استقل السواقيا» فقلت له: قلت بيت العيد في أي حالة؟ قال في زمن صعب، لكن العجب من أنه لا يزال نفس المعنى الذي قصدته فيه، بعد كل هذه القرون يحمل نفس المعنى. لماذا يا ترى؟!