تظل أيام العيد أيام فرح وسعادة وسرور، يعبّر فيها المسلمون عن فرحتهم سرورهم وسعادتهم في أداء أركان دينهم ومناسك حجهم وهديهم، فيلبسون الجديد والثوب القشيب، ويظهرون الفرح والسرور والسعادة والحبور، يتزاورون ويتهادون ويخرجون من عباءة المشاغل الدنيوية والأعباء والالتزامات الحياتية في مراسم أفراح شاملة ومواكب سعادة عارمة، تسبقها مساعٍ صادقة من صور التراحم والتكافل الاجتماعي التي أمر بها ديننا الإسلامي الحنيف، بغية مشاركة المسكين والمحتاج والفقير فرحة العيد، لا سيما وأن المؤمن مأمور بمشاركة إخوانهم وأفراحهم وأتراحهم على حد سواء، كما أنه مأمور بإظهار فرحته بيوم العيد، مهما كانت ظروفه وأحواله، بل مهما كانت ظروف المجتمع الذي يعيشه. «حبل الوصال» قيّد الماضي بآهات وآلام لا تنتهي وفتح باباً للأمل والغربة معاً التعبير عن الفرحة وقد حفل الموروث العربي القديم والحديث من خلال الفنون الأدبية والقصائد الشعرية على صور من الإبداع وفنون الإمتاع في القصيدة العربية؛ التي تعتبر في سالف الزمان وحتى الآن المعبّر الوجداني لهموم وشجون العربي في حاضرته وباديته، خاصة وأن كثيراً من هؤلاء الشعراء قد عبّروا صراحة عن ساعات الفرح والسرور في أيام العيد، وصوّروا من خلال قصائدهم التي لا تكاد تحصر عن حياة الناس في مختلف العصور والعواصم الإسلامية. ففي الوقت الذي صوّر فيه الأدباء والمؤرخون أجواء بغداد العباسية في يوم العيد استطاع شعرائها آنذاك أن يعكسوا لنا مظاهر السرور والفرح ومباهج العيد في تلك الأيام، لا سيما وأن المعنيون بتدوين وتاريخ الصور الاجتماعية في ذلك العصر وجدوا في قصائد الشعراء العباسيين الذين وصفوا حياة الناس أيام العيد معيناً خصباً يحكي لنا ولهم، كيف كانت مظاهر العيد؟، وكيف كان الناس يعبّرون عن سرورهم وأفراحهم أيام العيد أبان العصر العباسي الأول أي قبل أكثر من ألف سنة حتى إن الخطيب البغدادي صاحب "تاريخ بغداد" ذكر في مجمل حديثه عن مدينة السلام عبارة تناقلها المؤرخون من بعده حين قال: "من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد وصلاة التراويح بمكة ويوم العيد بطرسوس"، ثم قال: "يوم الجمعة في بغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد". يا ليلة العيد كم أقررت مضطرباً لكن حظ بني الحزن والأرق العيد الأندلسي وقد وصف أهالي الأندلس مراسم السرور والفرح في المدن والممالك الأندلسية، وصفاً رائعاً شيقاً، يعبر عن ربيع الأندلس وعلو كعبها الحضاري، خاصة وأنها كانت تنافس بغداد في الشرق وتحذي حذوها، وقد كانت معالم الفرح والمسرات تشاهد في أفواج المبكرين لصلاة العيد، الذين ينصبون خيامهم عند الجامع الكبير قبل العيد بيوم أو يومين، وبعد الصلاة يبدأ الناس بالاحتفاء ببعضهم البعض بالسلام والتحايا، وكذلك الأطفال الذين يتلقفون الحلوى، ويسيرون مع النساء في موكب طويل أمام نهر قرطبة، يسبقهم الرجال لزيارة المقبرة ومعايدة الأموات، ثم النزول بإيوان الحاكم والبدء في المراسم الاحتفالية، التي لطالما تغنى بها شعراء وأدباء الأندلس. أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه ولست يا عيدُ مني اليوم معذوراً في بلادنا كانت مراسم واحتفالات العيد في معظم مدن وقرى بلادنا قبل أكثر من أربعين عاماً تتشابه في المشاركة الاجتماعية والشعور الجماعي بالفرح وإظهار آيات السعادة والسرور، فيكاد يُجمع حديث الآباء والجدات على الاستعداد المبكر ليوم العيد الذي يبدأ من تجهيز الثياب والملابس الجديدة، وتنظيف وتعطير البيوت والمنازل، نهاية بإعداد وجبة "فطور العيد" لا سيما في عيد الفطر، ومع إشراقة شمس يوم العيد يتسابق الأهالي إلى مسجد العيد الذي غالباً ما يقع خارج البلدة في موقع ليس بالبعيد، يصلي الجميع هناك صلاة العيد ويستمعون للخطبة ثم يتبادلون التهنئة في جو فرائحي عائلي تحيطه مشاعر الغبطة والسرور، يذهب بعده الجميع إلى موقع الاحتفاء بمناسبة العيد، حيث تشارك كافة الأسر والمنازل بإعداد وجبة الفطور، التي تعد في الغالب من الأرز والجريش والقرصان واللحم، كما تقدم بعض الأسر أطباق الحنيني والمراصيع والمصابيب، ومع اختلاف أصناف المأكولات في أقاليم بلادنا، إلاّ أن هذه الأصناف غالباً ما تشمل معظم موائد الطعام في أقاليم الوسط والشمال، وربما الشرق مع اختلاف بعض المسميات بين صنف وآخر، وفيما يقدم أهالي جنوب المملكة أطباق السمن بالعسل والعريكة تزخر المائدة الحجازية بما لذ وطاب من أطباق الرز البخاري والبرياني وحلاوة السمسم و"أبونار" والمعمول والهريسة كان الأطفال حينها يزهون بالثياب الجديدة ويلعبون الألعاب الشعبية وقبل هذا كانوا يجوبون القرية أو الحي الذي يسكنونه، يطلبون "عيديتهم" من الجيران والأقارب عبر أهازيج جميلة تختلف في كلماتها بين إقليم وآخر، إلاّ أن مدلولاتها تشير إلى صفاء الجو الاجتماعي بين أهالي البلدة الواحدة. ذكريات العيد لا تزال خالدة ومتوارثة سلوكاً وتقليداً بين الأجيال غربة العيد قد يمر على البعض في ظروف استثنائية ربما تقلل من صور التعبير بفرحة العيد، كأن يوافق العيد وفاة أحد الأحباب، أو فقد أحد الأصحاب لظروف السفر أو عند هجر المنزل والزوجة والأهل، وما أشد مرارة أن يفقد الأبناء والبنات خاصة الأطفال منهم آبائهم أو أمهاتهم في يوم العيد، ولذا كان حظ كافل اليتيم -في الإسلام- من الأجر مرافقة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الجنة، كما حث الدين الإسلامي على ضرورة التكافل بين المسلمين، كما أنه شرع ركن الزكاة؛ فأمر وحث على الصدقة، وتحديداً قبل يوم العيد؛ ليشارك الفقراء ذوي اليُسر فرحة مظاهر العيد، وعلى الرغم من أن التعبير عن فرحة العيد هدي نبوي وضرورة شرعية، إلاّ أن أدبنا العربي حمل لنا نماذج من قصص وقصائد طغت عليها نبرة الحزن؛ بسبب ما عايشه هذا الشاعر أو ذاك من آلام وأوجاع مادية ومعنوية توافقت مع حلول يوم العيد الذي وافق خروج الشاعر المتبني من بلاط كافور الإخشيدي في مصر، بعد أن يئس من تحقيق أمانيه على يد "كافور" الذي مدحه "المتنبي" وأوصله عنان سماء الشعر البديع، لا سيما وهو يقول حين قدومه إلى بلاطه: قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا ولكنه حين خرج من عنده سبه ونعته بأقذع وأقبح الصفات، خاصة وقد وافق خروجه من بلاط "كافور" أن ضربته الحمى وتغربت عليه البلاء وضاق به الحال، فأدركه العيد وهو مسجى يئن من المرض ويقول: عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونهم بيد فتيل الفرح يشتعل في النماص عام 1945م غير أن ظروف "عيد المتنبي" كانت أقل بكثير من تلك الظروف التي مرّ بها "المعتمد بن عبّاد"، الذي كان يحكم أشبيلية وقرطبة ويعتبر أكبر ملوك الطوائف في زمانه، وهو الذي كان يطأ الحرير والديباج وتطأ زوجته المسك والعنبر في أجواء نعيم مخملي سرعان ما يزول ويضمحل؛ ليجد"المعتمد بن عبّاد" نفسه أسيراً في سجن قصي في مدينة أغمات قرب مراكش، يعيش البؤس والفقر والعزلة، بعد أن قتل ابنه وبقي هو أسيراً يترقب زيارة بناته، اللائي وفدن إليه يوم العيد يهنئنه وهن كسيرات فقيرات يلبسن أطماراً بالية، وهو ما زاد أوجاعه وآلامه فراح يقول قصيدته الشهيرة: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً وكان عيدك باللذات معموراً وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ فساءك العيد في أغمات مأسوراً ترى بناتك في الأطمار جائعةً في لبسهنّ رأيت الفقر مسطوراً معاشهنّ بعيد العزّ ممتهنٌ يغزلن للناس لا يملكن قطميراً برزن نحوك للتسليم خاشعةً عيونهنّ فعاد القلب موتوراً قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيراً يطأن في الطين والأقدام حافيةً تشكو فراق حذاءٍ كان موفوراً قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً لا خدّ إلاّ ويشكو الجدب ظاهره وقبل كان بماء الورد مغموراً لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ وليس إلاّ مع الأنفاس ممطوراً أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه ولست يا عيدُ مني اليوم معذوراً وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ فعاد فطرك للأكباد تفطيراً قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً لما أمرت وكان الفعلُ مبروراً وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ فردّك الدهر منهياً ومأموراً من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به أو بات يهنأ باللذات مسروراً ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت فإنما بات في الأحلام مغروراً ويتذكر الشاعر "عمرو خليفة" أبناءه الصغار وهو يقبع خلف قضبان السجن، وكيف يتلهف الصغار لرؤية أبيهم يأتي حاملاً لهم كسوة العيد، وهو ما لم يحدث طالما أن والدهم بين جدران زنزانته يتذكر أطفاله ويبكي، ويقول: يا ليلة العيد كم أقررت مضطربا لكن حظ بني الحزن والأرق أكاد أبصرهم والدمع يطفر من أجفانهم ودعاء الحب يختنق يا عيد يا فرحة الأطفال ما صنعت أطفالنا نحن والإقفال تنغلق ما كنت أحسب أن العيد يطرقنا والقيد في الرسغ والأبواب تصطفق أما "الطاهر إبراهيم"؛ فيصف وهو سجين حال أبنائه وهم يسألون أمهم عن والدهم، وهو يقول: وهناك خلف الباب أطفال لنا يتساءلون أمي صلاة العيد حانت أين والدنا الحنون؟ إنا توضأنا كعادتنا وعند الباب (أمي) اقفون زفرت تئن وقد بدا في وجهها الألم الدفين ورنت إليهم في أسى واغرورقت منها لعيون العيد ليس لكم أحبائي فوالدكم سجين جوال وشقق مفروشة تستمر فرحة العيد في زمننا الحالي، ويستمر التعبير عنها بالمشاعر الصادقة والتهاني الحميمية المتبادلة بين أبناء المجتمع، وكما كانت في سابق زمانها، بيد أن طغيان الحياة المادية وانتشار مخرجات الثورة التقنية، ممثلة بوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، ناهيك عن أجهزة التواصل والاتصال الحديثة، وعبّرت عبر أثيرها البرقي واتصالها اللاسلكي ووميض شاشاتها الفوتوغرافي والتلفزيوني، الذي اختزل للكثيرين من أبناء هذا الجيل عناء التواصل والاتصال، لا سيما للأماكن النائية التي يستطيع أبناء هذا الجيل من الاتصال بذويهم وأهاليهم مهنئين ومباركين لهم حلول يوم العيد، رغم البعد المكاني والاختلاف الزماني، بيد أن مشاعر الفرحة والبهجة والسرور، تظل مترجمة في الالتقاء بالأحباب والأهل والأصحاب، بعيداً عن أجواء الحياة العملية واللقاءات الرسمية، خاصة وأن كثيراً من مظاهر "فرحة العيد" غابت عن سماء يوم وليلة العيد التي طغت على مراسمها زيارة "أداء الواجب" بعيداً عن المشاركات الجماعية، وتحديداً بين أبناء الحي الواحد حيث ظلت المدن وربما القرى تعيش مظاهر الحياة المدنية، حيث تمتلئ الأسواق وتزدحم الشوارع قبل يوم العيد، في حين يظل يوم العيد خالياً إلا من ملامح لذكرى أحياء الأمس التي كان الجيران حينها يتحلقون حول "بادية الجريش" في حين كان أطفالهم يطرقون أبواب جيرانهم كما يطرق أطفال اليوم وجدان آبائهم، الذين يقفون لهم كيف كانت فرحتهم بيوم العيد، حين كانت الأسر الكبيرة تجتمع بكامل أفرادها في منزل طيني ربما لا تتجاوز مساحته المائة متر، في حين تستقبل الفنادق والشقق المفروشة جموع الأهالي الذين لا تزيد عدد ساعات اجتماعهم عن "صبيحة" أو "عصرية العيد". سكة في حي دخنة وسط الرياض عام 1937م حيث اجتماع الأسر والجيران في العيد لقطة الاحتفاء بالعيد في إحدى ساحات الهفوف قبل نحو ستين عاماً عيدية الأطفال لا تزال حاضرة في عيدي الفطر والأضحى فرح الجيل الحالي يتجدد بالموائد واللقاءات الأسرية الخاصة زيارة الأهل والأقارب في عيد بريدة عام 1918م أهالي حائل يحتفلون في ساحة أحد الأسواق عام 1940م