ليست هي المرة الأولى التي أتصفح فيها كتاب «حياة في الإدارة» لمؤلفه الراحل د. غازي القصيبي يرحمه الله رحمةً واسعةً، فبين فترةٍ وأخرى أعاود قراءته لأعيش مع تجاربه وخبراته في مختلف محطات حياته، كتابٌ لا تمل من قراءته فأنت أمام (عملاق) يسرد عليك العديد من المواقف الحياتية منذ أن كان طفلًا صغيرًا ومرورًا بمقاعد الدراسة والتخرج والوظيفة وانتهاءً بدوره (وزيرًا) لأكثر من وزارة وقطاع! المؤلف بدأ في سرد ذكرياته بدءا من غرفة الصف الدراسي في المرحلة الابتدائية، فهناك تعرَّف على بعض مبادئ الإدارة أو هكذا خُيِّل إليه في هذه السن الصغيرة، فوقف عليها وعرف أنها من المسلَّمات في كثير من المدارس ولا يعني هذا أنه قد مارسها في حياته الإدارية، وكما عاشها ورأى سلطتها القيادية فقد عشناها نحن أيضاً منذ كنا صغارًا في مدارسنا،، وأترك المساحة الآتية لذكريات المؤلف:- منذ بداية السطر الأول من الكتاب تناول المؤلف الحديث عن علاقة الإنسان المعاصر بالإدارة، وأنها تبدأ مع الطفولة، ويأتي السؤال غير المتوقع: متى تبدأ علاقة الطفل بالإدارة ؟ فيجيب: الأدق أن نقول إن الطفل يلمس تأثير الإدارة بمجرد أن يُدرك أنه كائنٌ يعتمد وجوده كليةً على قرارات يتخذها الآخرون! إن الطفل - في تصوري - لا يبدأ تعامله الحقيقي مع الإدارة إلا بعد أن يذهب إلى المدرسة، في المنزل هناك قرارات عديدة ولكنها تبقى قرارات عائلية يصعب على الطفل أن يتبين طبيعتها الإدارية، أما في المدرسة فيلتقي الطفل بالإدارة وجهًا لوجه ويرى كل محاسنها ومساوئها. ويعود المؤلف ليصف لنا أحد أيام الدراسة بدءاً من الطابور الصباحي: يتولى التفتيش على نظافة الأظافر مدرس مختلف في كل يوم، وكان من بين المدرسين من لا يكتفي بالنظر إلى الأظافر، بل كان يسأل كل واحد منا إذا كان قد استحم ذلك الصباح، فإذا أجاب الطالب بالإيجاب نجا من العقاب، وإذا ذكر الحقيقة هوت المسطرة على الأصابع، والحقيقة هي أن أنظفنا لم يكن يستحم سوى مرة واحدة في الأسبوع ! هذا المعلم كان يتوقع أن يستحم أطفال صغار كل صباح في شهور البرد القارس قبل أن تصل المياه إلى معظم المنازل، لعله كان يستهدف تشجيعنا على النظافة والصدق، إلا أن كل ما فعله هو إغراؤنا بالكذب! الطفل في أسبوعه الدراسي يتعرف على «خيزرانة المدير» ومدير المدرسة يبدو أمامه تجسيدًا للغول الإداري، كان إرسال طالب إلى المدير يعني أن ترتفع الخيزرانة وتهوي على يد الطالب مرتين على الأقل وعشر مرات على الأكثر، لم أسمع بحالةٍ واحدة ذهب فيها طالب إلى المدير ليسمع ثناءً أو يتلقى جائزة، كانت العلاقة بين الطلاب والمدير قائمة على الخوف ولا شيء غير الخوف، ويعتقد الكاتب جازمًا أن وجود مدير صارم حازم أمر ضروري فمن دونه ينهار الانضباط المدرسي كلية، وللمؤلف وجهة نظر خاصة في هذه «الخيزرانة» فهو يقول: مع تقديري للخبراء التربويين ونظرياتهم أرى أن عقوبة الضرب يجب أن تبقى في المدارس الابتدائية دون الإعدادية والثانوية، ويجب أن تبقى في يد المدير وحده، أعرف نماذج من الطلبة لا يفلح في تقويم مسلكها في هذه السن سوى العصا أو التلويح بها! «التهاون الإداري» مصطلح عرفه المؤلف وهو في السنة الخامسة الابتدائية فيقول: اصطدمتُ لأول مرة بالنتائج الوخيمة للتهاون الإداري وإن كنتُ وقتها لم أسمع بهذا التعبير، فقد أوكلتْ الإدارة تدريس ثلاث مواد رئيسية إلى مدرس شاب قليل الخبرة، عديمها هي الكلمة الأدق، خالٍ تماما من روح المسئولية، كان سرورنا عظيمًا بهذا المدرس الذي لم يشرح شيئا ولم يطالبنا بواجب، وكان يقضي الحصص كلها في الحديث عن السيارات (أنواعها وخصائصها وسرعتها وأثمانها) لم نكد نلمس المناهج لمسًا، فضلًا عن دراستها، وقعت الواقعة في نهاية العام حيث رسب أكثر من نصف الطلاب في مواد المدرس المفتون بالسيارات، تنبهت إدارة المدرسة بعد فوات الأوان إلى الخطأ وذهب المدرس غير مأسوف عليه! والحديث الآن لكاتبة المقال: لم يكن د. غازي هو الوحيد الذي مرَّ بتجربة (مدرس السيارات) فعندما كنتُ وصديقاتي بالصف السادس الابتدائي - ولستُ هنا بالمقلِّد لشخصية هذا الوزير الفذ - أُبتلينا بمعلمة اجتماعيات كانت تكتفي بشرح الدرس على عجالة، ونمضي الوقت الباقي من الحصة في ضحكٍ مستمر على نوادر وحكايات موطنها العربي، لم يكن هناك واجب منزلي ولا مراجعة للدرس السابق وجاءت النتيجة في نهاية العام غشا في اختبار المادة وضعفا في الدرجات للناجحات وتحقيقا إداريا مع/أبله كريمة)! وأختم بتجربة للمؤلف عندما كان في أمريكا: (لقد تعلمتُ هنا الكثير عن الإدارة، استقيتُ أهم ما تعلمته من الباحث الشهير هانس. ج. مورجنثاو، فهو يرى أن السياسة كانت منذ الأزل وتبقى إلى الأبد صراعًا على القوة، فالقوة هي محاولة اخضاع الآخرين لسلطة المرء، إنك لا تستطيع أن تخضع الآخرين لسلطتك فتجعلهم ينفذون أو يمتنعون عما تريد إلا عن طريق ثلاثة دوافع: الرغبة في الثواب، أو الخوف من العقاب، أو الحب والاحترام، هناك فرق شاسع بين من يطيعك حبًا ومن يطيعك خوفًا! وقفة تأمل: نؤمن بأن كثيرًا من القيم والمبادئ يتعلمها الطفل منذ اليوم الأول بالمدرسة،، فهل أدركت مدارسنا وخاصةً الابتدائية كم من طالبٍ بنته للعلياء وآخر تركته حطامًا!!