كان في إحدى المدارس أستاذ طيب جداً ولكنه أحمق جداً.. كان غزير المعرفة، قليل الحيلة، ضعيف الشخصية.. مما جعل أشقياء الفصل يستغلون طيبته وحمقه. وذات مرة (صفر) أحدهم.. وكان الأستاذ منهمكاً في كتابة الدرس على السبورة.. فطلب من الطلبة أن يخبروه عن الذي قام بالتصفير.. فلم يخبره أحد. فقال بغضب: أصلكم حمير وأولاد كلب.. فرد أحد الطلبة ساخراً: كيف نكون حميراً وأولاد كلب في آن واحد؟! فرد الأستاذ بانفعال: مثلك تماماً (دا أنت أصلك حمار وابن ستين كلب..( أُلت إيه..؟!) فسكت المسكين في ذلة ومهانة، ولم يقل شيئاً.. وعندما جاء المدرس الآخر بث الطلبة إليه شكواهم بسبب ما ألحق بهم مدرس اللغة العربية من إهانة.. فرد عليهم ان ما قاله الأستاذ كان خطأً فادحاً!! اذ لا يجوز الجمع بين أمرين فإما أن تكونوا حميراً.. وإما ان تكونوا أولاد كلب..! مما زاد من الإساءة والحسرة في نفوسهم.. فقرر كبار الفصل أن يوصلوا الأمر إلى المدير.. وحينما دخلوا عليه وأظهروا شكواهم ضحك وقال لماذا الغضب؟! من كان يشك في أنه حمار أو أن أباه كلب فله أن يغضب.. فخرج المساكين من عنده خجالى لم تحل قضيتهم.. ولم يُنصفوا. فقرروا أن ينتصروا لأنفسهم بطريقتهم الخاصة.. فكتبوا على حائط المدرسة المدهون بالبياض بالخط العريض هذه العبارة: (مدرسة الحمير وأولاد الكلب). فغضب المدير وكلف الفراش بطمسها وحكها من الجدار. وأدرك الصغار بشقاوتهم أنهم دخلوا اللعبة المؤذية مع المدير. فبعد يومين كتبت العبارة بخط أكبر وأعرض.. فاغتاظ المدير وأصدر أمره بإزالتها، واستمر التحدي بين المدير والطلاب.. الطلاب يكتبون والمدير يمسح حتى صارت حيطان المدرسة مليئة بالتشوهات والحفر، والنقوش. وذات يوم دخل المدير الفصل وفي يده خيزرانة طويلة وأقسم بالله العظيم إن رأى شيئاً مكتوباً على حائط المدرسة أن يمزق أيديهم وأرجلهم بهذه الخيزرانة.. فكاد بعضهم يبول في ثيابه من شدة الخوف، وأصبحوا كل صباح ينظرون بوجل إلى الجدار!! وذات يوم شوهدت العبارة مكتوبة بخط أحمر كبير فداخلهم الرعب، وأدركوا أن الكارثة حلت بهم وتراجفت قلوبهم الصغيرة خوفاً من خيزرانة المدير. ومرت الحصص وهم يترقبون.. وفي نهاية الحصة الأخيرة أغلقت أبواب المدرسة على من فيها وجمع الطلبة كلهم في الساحة.. وقام المدير وألقى خطبة طويلة تفيض بالوعظ والإرشاد، وضرورة التحلي بالأخلاق الفاضلة، ونبذ التمرد والعصيان والسلوك المستهجن والإساءة إلى المدرسة، وختمها بالتهديد والوعد والوعيد.. ثم سيق (طلبة الفصل) إلى وسط الساحة أمام أعين الجميع.. وصاروا يأخذونهم واحداً واحداً وأنزلوا بهم شديد العقاب.. وظل الضعاف منهم ساعة في ساحة المدرسة لا يقوون على الوقوف بسبب الضرب العنيف الذي وقع على أقدامهم الطرية. ومنذ ذلك الحين داخلهم رعب من المدرسة وأساتذتها وفراشيها. واختفت الكتابة من فوق الحائط الخارجي، ولكنها ظهرت على حيطان دورات المياه.. وعلى بعض الأوراق التي ترمى في ممرات المدرسة، وصار المسح داخل دورات المياه وتجميع الأوراق أكثر صعوبة على الفراشين من مسح الجدران الخارجية. وذات يوم زارهم المدير فوجفت القلوب واضطربت.. خوفاً من الخيزرانة المشؤومة. ولكنه هذه المرة أقسم أن يفصلهم جميعاً، فحلت بهم كارثة من نوع آخر، وحل بهم خوف من نوع آخر.. وفعلاً وجدوا أنفسهم ذات يوم خارج بوابة المدرسة.. -لان الكتابة لم تتوقف- حاول بعض الأساتذة الطيبين معالجة الوضع مع المدير والتحقق في الأمر بشكل لا يضر بهم جميعاً.. ولكن المدير كان عنيداً وقاسياً ولم يقبل شفاعة أحد فيهم. وعادوا إلى بيوتهم وأخبروا آباءهم فنالهم من الضرب والعقاب والتوبيخ والتأنيب ما الله به عليم. وتجمع بعض الآباء وذهبوا إلى مدير المدرسة قائلين له: (ما دام الأمر أمر تأديب وتربية فلك اللحم ولنا العظم)، أي أن لحومهم الطرية حِلٌّ للمدير الصلف العنيد يسلخها جَلءداً كما يشاء، ولأهلهم عظامهم الرقيقة الضعيفة!!! وصاروا موزعين: لحم للمدير، وعظام للأهل، ولهم الخوف يطلع عليهم في كل حين!! ولم تتوقف الكتابة، ولم يتوقف الخوف.. فقد عادت الكتابة على الحيطان والأوراق، ودورات المياه.. وأشيع أن بعض الطلبة من الفصول الأخرى هم الذين يكتبونها.. بل أشيع ما هو أخطر من ذلك، فقد قيل ان بعض المدرسين الذين ليسوا على وفاق مع المدير كانوا وراء ذلك... وكثرت الأقاويل وسرت الإشاعات والشك والريبة والنميمة، وكثر الضرب والأذى في الجميع وأصبحت الخيزرانة لا تميز بين أحد.. بل صار الطرد من المدرسة يصيب من لم يقع في الخطأ... وساد الهرج والمرج وكثر الاضطراب، وصار التلميذ يخاف من زميله.. وتراكمت على مكتب المدير تقارير بعض الأساتذة والمخبرين من الطلبة.. وصار مشغولاً منهمكاً في قراءاته وشكوكه.. وتحول جو المدرسة إلى جو مشحون بالحذر، والريبة، والترقب.. وذهبت الطمأنينة والهدوء.. وذهب معها أيضاً الجو العلمي وصارت المعرفة محاصرة بالقلق والخوف.. حتى إن كثيراً منهم ذهبوا إلى مدير المدرسة وكتبوا تعهداً موقعاً بأنهم لن يدخلوا دورة مياه تحت أي ظرف، وألا يكتبوا أي حرف خارج كراسة المدرسة.. ومر ذلك العام كأسوأ عام دراسي في حياتهم. ومرت الأيام.. وتركوا المدرسة.. ولكن تلك العبارة ظلت مكتوبة على الجدار سنين عديدة حتى محاها البلى.. وكان بعضهم يمر عليها بعد أن كبر ويضحك بكثير من الأسى. يضحك من ذلك الأستاذ الأحمق.. ويضحك من ذلك المدير العنيف الأهوج الذي حوّل الدراسة الى كابوس يومي. ويضحك من ذلك (الشقي) الذي (صفّر) ذات مرة فتسبب في خلق عقدة مرعبة اسمها: الخوف من الكتابة في غير كراسة المدرسة.