في الموسيقى، كما في أمور ذوقيةٍ أخرى، يبدو المغلوب مولعًا بتقليد الغالب، على ما يقول ابن خلدون، إذ إن العولمة، وما نشرته من ألوان موسيقية وغنائية غربية، وتحديدًا تلك التي تطورت في الولاياتالمتحدة، أغرت كثيرًا من العرب بتقليدها، والحجة هي «مجاراة العصر»، والبعد عن الركود والتحنط، والذهاب صوب التجديد. لم يقم أصحاب هذا التوجه سوى باستنساخ رديء للموسيقى الغربية، دون العمل على التجديد والمزج الحقيقي، وعمل نقلة نوعية أو إضافة. لا يمكن إنكار دور التأثر بالثقافات الأخرى في التجديد الثقافي، وفي الموسيقى كما في غيرها من الفنون الدالة على خصوصية الثقافات، هناك شيء ما يدل على ثقافة معينة، وهو يتفاعل مع الألوان الثقافية الأخرى ويتطور من خلال هذا التفاعل، لكن الاندفاع الكامل للتقليد، دون الإلمام باللون الموسيقي الخاص، والاهتمام به، يُنتج ما نراه من نسخ رديئة. كانت الموسيقى العربية على مدى تاريخها متفاعلة مع ألوان موسيقية تنتمي لثقافات أخرى. يشرح هذا د. نبيل اللو في كتابه «عَودٌ على العود» الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ويؤكد الكتاب أن الإرث الموسيقي العربي هو حصيلة تمازج ثقافات مختلفة شغلت الفضاء الجغرافي العربي، حيث كان مركز الخلافة الإسلامية، ومن خلال انتشار الإسلام على يد العرب، دخلت أقوام وأعراق جديدة في الإسلام، وضخت دماء وألوانًا جديدة في الموسيقى العربية، كما في غيرها من الفنون. ويورد د. نبيل اللو رأيًا حول أصول الموسيقى العربية، للباحث التونسي صالح المهدي، مفاده أن الموسيقى المتقنة عربيًا بدأت مع زرياب في القيروان، ثم حمل معه الموسيقى التونسية إلى الأندلس، ومن هناك انتشرت وذاع صيتها. لكن العوّاد العراقي المعروف منير بشير له رأي آخر، إذ يرى أن مخزون زرياب الموسيقي ينتمي لبلاد ما بين النهرين. مهما كان الاختلاف حول أصول الموسيقى العربية، فإن المميز في هذه الأصول طغيان الغناء على استخدام الآلة الموسيقية منفردة، وهو أمر مستمر إلى يومنا، فالغناء ينتشر بصورة أكبر بكثير من المقطوعات الموسيقية الخالية من الصوت الغنائي، ويُعزى هذا تاريخيًا إلى ضعف الآلة الموسيقية من الناحية التقنية، وعدم قدرتها على الإتيان بما يأتي به الصوت من تطريب، مدعومًا بالأشعار الجميلة والمؤثرة في العواطف. في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، الكثير من أخبار المغنين، والقليل جدًا من ذكر الموسيقيين، ما يؤكد سطوة الغناء عند العرب، على التأليف الموسيقي. مع ذلك، ظهرت مجموعة من المغنين الذين هم ملحنون أيضًا، خلال العقود الماضية في الوطن العربي، وقاموا بمزجٍ جريء بين ألوان موسيقية عربية وغير عربية، وجددوا بالفعل، غير أن أمثالهم نادرون اليوم في دنيا العرب، وهذه الندرة تنطبق على مجالات الإبداع الفني والثقافي المختلفة. * كاتب