لا أحد ينازع الأستاذ حسن الكرمي على هذا العنوان، لكني أستعيره هنا لأن ما سوف أقوله ليس سوى قول على قول الصديق والشاعر المتميز عبدالوهاب أبو زيد، الذي أوحى إليّ بتأمل ذلك السجال المزمن بين النور والعتمة. وهو سجال بين خصمين قديمين قدم الحياة على هذه الأرض. ولست بحاجة إلى نبش صفحات التاريخ بحثا عن أمثلة، فأينما ولَّى المرء وجهه فثمَّة أمثلة حية على ذلك السجال المرير. لكل واحد من هذين النقيضين أدواته ووسائله؛ وكما يعبّر الجمال عن نفسه من خلال الفن والأدب والتصوير والموسيقى والمسرح وبقية الفنون الجميلة الأخرى، وهي أدوات جميلة تماثل الغايات، يعبّر القبح عن نفسه بالأدوات والوسائل التي تماثل غاياته. وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة مساحة لكل منهما. يسجل الجمال على هذه المساحة تجلياته وإبداعاته وروائعه، ويبشر بعالم جميل يسوده الحب والسلام، ويسجل القبح عنفه اللغوي وبذاءاته. عن هذه المساحة التي يشغلها أنصار العتمة كتب الشاعر عبدالوهاب أبو زيد في صفحته على «فيسبوك» العبارة التالية: «قديما لم يكن لديهم سوى أبواب الحمامات أكرمكم الله ليسطروا عليها بذاءاتهم. الآن أصبح لديهم تويتر». نعم، هكذا وجدت تلك البذاءات، التي يمكن اعتبارها نواة للتوحش، مساحةً على تويتر ومواقع أخرى؛ مساحة لم تكن متاحة من قبل على وسائل الإعلام التقليدية: كالصحافة الورقية مثلا. لكن الظروف اختلفت بعد أن صارت الشبكة العنكبوتية شبيهة ب «حارة كُلْ مين إِيْدُه إِلُو». وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه أمبرتو إيكو حين قال: «إن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت لجحافل الحمقى أن يتحدثوا وكأنهم علماء». نعم. كأنهم علماء، والفرق بينهم وبين العلماء أن العلماء لا يتكلمون في أي فن خارج دائرة الاختصاص؛ لإدراكهم أن «من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب». على الصفحة نفسها، وفي سياق آخر، يقول أبو زيد، إنهم «لا يفرقون بين الشعر والشعير». وهذا أمر متوقع، فلم يكن ما لُقّنوه في سنوات الدراسة ما يرتقي بذائقتهم الأدبية والفنية، أو يؤهلهم للحكم على الأشياء بشكل عام، ناهيك عن مسائل الفن والأدب. أشار أحد البحوث الميدانية المقدمة في مؤتمر الأدباء الخامس المنعقد بالرياض، قبل أيام، إلى تدني مستوى التحصيل الأدبي في مراحل الدراسة الأولى بشكل يؤيد ما ذهب إليه الشاعر أبو زيد. أعود إلى موضوع ذلك السجال لأقول: في الوقت الذي تفتح فيه قوى التقدم نوافذ يتسلل منها الضوء، وتتطلع إلى إنجازات ثقافية وحضارية تنسجم مع طبيعتها المجبولة على البناء. لا يملك التخلف مشروعا سوى الهدم، وسوى العودة بالحياة إلى الوراء. لقد طالت معاوله التراث الإنساني بشكل يبعث على الحزن. وفي حين يراهن التقدم في تبشيره بالجمال على نباهة المتلقي، وحسه السليم، يراهن التخلف في تعبئة مريديه على البلاهة. وبالعودة إلى الحديث عن تلك البذاءات التي تلوث مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن القول إن لدى أصحابها الاستعداد للذهاب بعيدا نحو المجهول، فهم صيد سهل لمن يراهن على ذلك الخواء لخدمة أجندات خاصة. ويبدو أن تلك البذاءات ليست مجرد شقاوة صبيان مراهقين، قد تختفي بمجرد بلوغ سن النضح، وليست مؤشرا على الإفلاس الثقافي وحسب، بل هي نواة للتوحش تبدأ صغيرة، وقد تكبر فتستبدل الكلمةَ بالمخلب. وهو استعداد عقلي ونفسي تكوّن بفعل تنشئةٍ خاطئة يلخص نتائجها المثل القائل «إنك لا تجني من الشوك العنب».