فارقٌ أساسي بين إدارة الدولة وإدارة الشركة، يتعلق بطبيعة كلٍّ منهما، إذ إن الشركة تتأسس على قاعدة تحصيل الأرباح، ومحدداتُ نجاحها أو فشلها مادية، فيما تقوم الدولة على إدارة شؤون مواطنيها، وتمثيل مصالحهم الجماعية، وحمايتهم، وهذه وظائف تتعدى مسألة تحصيل الإيرادات، ولا ترتبط إدارة الدول عضوياً بالمقاييس المادية. مع ذلك، يسوِّق بعض الكتاب والمحللين لفكرة إدارة الدولة بعقلية الشركة، ويعتبرونها تطوراً كبيراً يؤدي لنتائج مبهرة على صعيد أداء أجهزة الدولة وكفاءتها، كما أن عوائدها إيجابية على الاقتصاد، وهم يبنون كلامهم على الإيمان بأسطورة ارتفاع الكفاءة في عمل القطاع الخاص، مقارنةً بالقطاع العام، وفضلاً عن كونها مغالطة، فإن الدعوة لإدارة الدولة كشركة تنطوي على إشكالات. أول الإشكالات يكمن في تجاوز طبيعة الدولة ووظائفها، إلى تحجيمها بمسألة البحث عن الدخل، وتقييم عمل أجهزتها بمعايير الربح والخسارة، دون الالتفات لمعايير أخرى. يترتب على هذا النهج تقليص دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، لأن هذه الخدمات تكلف الدولة دون أن تعود بمنافع مادية مباشرة عليها، وعليه، تصبح الخدمات المقدمة للمواطنين، وهي في صُلب مسؤوليات دولة الرعاية، مجرد أعباء مادية يجدر التخلص منها. الإشكال الثاني يتمثل في الاعتماد على ريع معين وغياب الإنتاجية، فعندما تتحول أجهزة الدولة إلى عقلية الشركة الربحية، في غياب أي إنتاجية، تصبح مشغولة بإيجاد مصادر دخل تُعوّض بعضاً من كلفة تشغيلها، أو تجلب أرباحاً، ولغياب المُنْتَج الذي يجلب الدخل، يصير المواطن هو مصدر دخل هذه الأجهزة والمؤسسات الحكومية، التي تتحرك بعقلية الشركة، ويمسي الشغل الشاغل لهذه الأجهزة تجميع مداخيل من الرسوم المفروضة على الخدمات المختلفة، المقدمة للأفراد أو لشركات القطاع الخاص، إذ «تبيع» هذه الأجهزة خدماتها بمقابل مادي، لتحقق دخلاً محدداً، على طريقة الشركات والبنوك، وهكذا، يكون المواطن هدفاً لرسوم وضرائب خفية، يتم اختراعها لتحصيل دخل لهذا الجهاز وتلك المؤسسة، على حسابه. إدارة الدولة كشركة اختزال لدور الدولة ومسؤولياتها، واستسلام لشعارات براقة، لا تصمد عند التدقيق فيها، مثل الحديث عن كفاءة أداء القطاع الخاص مقابل القطاع العام، ما يوجب تقليد القطاع العام للخاص. لا نحتاج للحديث عن تجارب عديدة في العالم يعمل فيها القطاع العام بفعالية، ويكفي أن ننظر لدول الخليج، لنرى كيف تعمل شركات النفط والنقل الجوي المملوكة للدولة بإنتاجية أعلى من شركات القطاع الخاص، المحصورة في أنشطة مثل التجزئة والمقاولات، والتي لا تمثل حالة مستقلة عن الدولة، لأنها تعيش على الإنفاق الحكومي، ولا تتنفس بدونه. كاتب