أدمنا النفط الرخيص وأصابتنا سكرة الريع. أربعة عقود وتزيد خلفت تشوهات اقتصادية واجتماعية وسلوكية جسيمة. والتزام الدولة نحو القطع مع تلك التشوهات هو إعلان الرؤية المستقبلية. يمكن اختصار مانفيستو الرؤية في ثلاثة توجهات: تقليص الاعتماد على النفط كمصدر دخل وحيد.. تقليص الفساد.. وتقليص الحكومة. وهي كلها توجهات صريحة وشجاعة.. إلا الأخيرة، اذا كانت ستجلب معها تآكل مشروع «دولة الرفاه». التوجه بتقليص الحكومة يعني تخفيف عبء أعداد الموظفين في الجهاز البيروقراطي وتصحيح جنايته على الكفاءة والإنتاجية والنمو. وهذا ترشيد مطلوب تأخر الاعتراف به. لكنه يعني أيضا الرهان على الخصخصة والقطاع الخاص - وربما القطاع الأهلي غير الربحي - ليتحول دور الحكومة من «مقدم أو مزود للخدمة» إلى «منظم ومراقب للقطاعات». إن الفطام من الإدمان ستتبعه آثاره انسحابية قاسية.. لربما نحن نعيش أجواءها التقشفية حاضرا.. لكنها فترة موقتة لا يجدر أن تسود. وبعد أن نتجاوز تلك الآثار الانسحابية، ينبغي علينا أن نتأكد من قدرتنا على الوصول إلى حالة «النشوة» من جديد. والنشوة، أي المداخيل الوفيرة، تتطلب نموذج رفاه أي منظومة إعادة توزيع كفؤة وحديثة، تقطع مع سياسات الريع، ومع مشروعي الستينات، ومشروع السبعينات والثمانينات. هل نحن قادرون على إعادة صياغة «نموذج رفاه» خالٍ من الزيت، يعيدنا إلى سكة النشوة الجمعية؟ وإلا لقد فقدنا في تجربة الإدمان العريضة المقدمات - والرغبة - للعودة إلى حالة النشوة الطبيعية من جديد؟ تحول هيكل الاقتصاد ونمط الإنتاج في السعودية الحديثة من اقتصاد خراجي توسعت شبكته التنظيمية بعد الخروج من أزمة الكساد العظيم في منتصف الثلاثينات الميلادية، إلى اقتصاد ريعي وضعت أسسه في أول الستينات مع نشأة الجهاز الحكومي البيروقراطي الحديث الذي أسسه الملك فيصل بين عامي 1962 و1964، ثم ما لبث وأن تغول - أي السلوك الريعي - مع سنوات الطفرة. كان مشروع الرفاه في الستينات يريد خلق نظام كفؤ للتنمية الاجتماعية للحد من الممارسات القديمة كالخوة والغزو (عند القبائل) والطوائف ونقابات المهن وأصحاب التقارير (عند الحضر). ولتوازنات سياسية، وطبيعة المرحلة الانتقالية، جنح مشروع الرفاه إلى الريع، عندما عمل على امتصاص أي قوى منافسة - أو شبه منافسة - في الجهاز البيروقراطي العام. ترتب على ذلك عدة ظواهر عامة من بروز «محميات» بيروقراطية منعزلة ضمن الجهاز الرسمي أدت إلى آلية صنع قرار متشرذمة، وإلى نشوء طبقة زبائنية - تستأثر على مشاريع الحكومة بامتياز الضغط السياسي والمشاركة في صنع القرار مقابل الغياب الصريح لجماعات المصالح المجتمعية المدنية. ثم جاءت الطفرة (1973-1983) كتحول راديكالي عنيف؛ اعتمدت فيه الدولة في دخلها على ريع البترول - وأهملت أي منظمات للاقتصاد وما تجره من مداخيل وفيرة. وإذ أنجزت الطفرة هدفان؛ خلقت سوقا وطنية موحدة، وشبكة مواصلات عالية الكفاءة كانت عاملا في نشوء برجوازية المدن. إلا إنها أفضت إلى تشوهات اقتصادية.. وأنشأت طبقتها الميغا-زبائنية.. ومر الفساد في زمنها دون قنوات ضبط ورقابة. لكن مشروع السبعينات والثمانينات، الذي اعتمد على سياسة الميغا-إنفاق، انزلق في هوة ريعية أسحق. جعلت الطفرة من التنظيم الضريبي مسألة هامشية، ففقد مشروعها مقومات إعادة التوزيع العادلة. كان أثر معادلة: «الرفاه بذهنية ريعية ومن دون تنظيم ضريبي» قاسيا على شكل الإنتاج، وعلى الحجم الوظيفي للحكومة، وبالتالي تبدت جنايته على النمو، وعلى آلية صنع القرار وإصدار التشريعات. ألغيت الضرائب غير المباشرة في 1974 في الحج والمشاعر المقدسة والتلغراف والتبغ وامتيازات الصيد واستخدام المطارات والطرق.. وأخفضت الرسوم الجمركية على السلع المستوردة. كما تساهلت الدولة مع تحصيل الزكاة في 1976.. ودام فراغ ضريبي تام على الشركات خمس سنوات من 1973 حتى 1978. أخفضت الضريبة على العمالة الأجنبية، وأعطيت رؤوس الأموال الأجنبية إعفاءات ضريبية واسعة، وألغيت ضرائب الدخل المقترحة، كما ألغت الحكومة ضرائب القطاع الأهلي لتمويل الشؤون الاجتماعية، وقامت هي، بدورها بتحمل أعبائها من الميزانية مباشرة. دمرت الطفرة شبكة الاقتصاد الخراجي (Extractive Economy) القديم، ولم يحل محلها اقتصاد منتج/تعاوني (Inclusive Economy)، بل ريعي رأسمالي - تحتكر الدولة فيه الاقتصاد وإنتاج الثروة. وحينما كانت مؤسسات الدولة تنمو وظيفيا وتتضخم في الطفرة، كانت مصلحة الزكاة وحدها تعاني من ضمور وظيفي رهيب. الموارد الهائلة التي انسكبت بشكل مفاجئ، أو عملية «إدمان النفط»، وأضف ربما الرغبة في تأجيل استحقاق المشاركة السياسية.. كل ذلك أضاع فرصة خلق نموذج رفاه كفؤ ومستدام. نوه الأمير محمد بن سلمان بأن الحكومة سوف تذبح أبقارا مقدسة.. لعل (الريع) هو أسمنها الذي ستساح دماؤه كالطمي. تعد الرؤية بإصلاح جذري شامل (Wholesale Reform). لا إصلاحات متفتتة بحسب فلسفة الجزر المعزولة (Islands of Efficincy).. وهو منهج محايد، يجب أن ينسحب على التفريق بين الرفاه والريع. الريع - يوزع الثروات دون جهد في قنوات التوظيف البيروقراطي، أو دون نشاط إنتاجي في مشاريع الميغا-مناقصات. وهو يقضي على أنشطة إنتاجية واقتصادية إبداعية هائلة.. وبما يراكم، بالتالي، الثروة الوطنية. أما منظومة الرفاهية، أي تقديم الحكومة لمنظومة خدمات وحزم مالية واجتماعية ومعيشية، فهي تعيد توزيع الثروات في برامج عدالة اجتماعية وفق آلية معرفية ونزاهة إحصائية، وهي لا تعطل الإنتاجية ولا تقتل المبادرة الفردية الحرة وحيوية إنشاء المؤسسات الصغيرة، طالما رافقها تنظيم ضريبي كفؤ، وبرنامج تعليمي وثقافي عريض يقطع مع قيم الأبوية والرعاية ويتبنى قيم المبادرة والكفاح. ومثال ذلك الدانمرك: التي رغم ضريبة الدخل المرتفعة وإجازات الموظفين المتعددة.. إلا أنها تحفل بإنتاجية عالية، ومعدل إنشاء مؤسسات فردية عالي وبالتالي معدل خلق وظائف عالٍ أيضا. ربط الرفاه بذهنية الاقتصاد المعرفي/التعاوني (Inclusive Economy)- يوزع القوة والموارد بشكل أكثر عدالة، ويحافظ على حق الملكية والمبادرة الفردية وآليات السوق الحر - في آن. وكما تعد الرؤية بإلغاء طبقة الزبائنية البيروقراطية.. يجب أن تعمل آلياتها على عدم خلق طبقة أوليجاركية-أي قلة متسلطة ماليا واستثماريا. والرؤية لا يجب أن تعتمد على فلسفة رأسمالية صرفة - يكون النمو الربحي هو معيارها الأعلى. دون ارتباط النمو بأي محددات عدالة اجتماعية. إن إقرار الضريبة توجه سليم، ليس لأنها تخفض الهدر وتكبح الفساد فسحب.. بل لكونها في اقتصاد غير صناعي مثلنا، تستحيل مصدر معلومات هائل لتوزيع الدخل وملكيات الأراضي. ناهيك عما تفرضه من محاسبة ومراقبة ومشاركة في تصميم النماذج واتخاذ القرار. والتنظيم الضريبي هو مقدمة نموذج رفاه كفؤ. الإسراف في الرهان على الخصخصة، وفي تبني سياسات السوق الحر، قد يهدد نموذج الرفاه.. إن لم يقتبس صيغا تدريجية مثل شراكة العام-الخاص، والشراكة بين الدولة-المشغلين الأفراد. قد تؤدي الخصخصة إلى سيطرة القلة على الخدمات والفرص الاستثمارية. ولنا في اكتتاب البنك الأهلي شاهد قريب، عندما أعطيت تسهيلات بنكية وصلت إلى خمسين ضعفا لمن يملك النفوذ والانفتاح على دوائر صنع القرار بالبنوك. إن مؤسسات الصحة، والتعليم والثقافة لا يجب أن تخضع لمخالب الخصخصة. تقاس الكفاءة بالمقارنة بين العائد والنفقات. ولا يجب أن يقاس العائد في هذه المؤسسات بالنقود فقط. إن العافية والصحة الجسدية والنفسية، والكرامة الإنسانية، والارتقاء العقلي والروحي للمجتمعات يجب أن تدخل كلها ضمن حساب العائد. تقليص الحكومة، يجب أن يقترن بنموذج فعال للرفاه - لا بأن يكون على حسابه.