تحدثت في المقالات السابقة عن الصعوبات الكبيرة التي تواجه برنامج التخصيص في المملكة، والتي تجعل من قبيل المستحيل تنفيذ برنامج تخصيص حقيقي، وفي هذا المقال سأستعرض بديلاً مغفولاً عنه في المملكة رغم نجاحه الكبير في دول عديدة متقدمة من بينها كندا وأستراليا ونيوزيلندا وهو برامج استعادة التكلفة Cost Recovery Programs. وعند تطبيق برنامج استعادة التكلفة يبقى الجهاز حكوميا لكن يدار وفق أساليب تجارية معتمدا على إيراداته الذاتية من خلال ما يتقاضاه من رسوم على الخدمات التي يقدمها. والمعيار الأساس لتطبيق البرنامج هو إمكانية تحديد المستفيدين من الخدمة، أي أن يكون هناك فئة مستفيدة من الخدمة يمكن تحميلها تكلفتها. ويمكن استعادة تكلفة بعض الأنشطة التي يقدمها الجهاز الحكومي بينما تستمر الدولة في تحمل تكاليف أنشطة أخرى باعتبارها خدمات عامة المنفعة. فالمستفيد من الرقابة البنكية مثلا هي البنوك وبالتالي عليها تحمل تكاليف قيام البنك المركزي بهذا النشاط بينما تتحمل الدولة تكلفة أنشطة أخرى عامة يقوم بها البنك المركزي. لذا نجد في استراليا على سبيل المثال أن كافة الأجهزة التنظيمية Regulatory Agencies كالبنك المركزي وإدارة الرقابة الدوائية وإدارات الرقابة على الغذاء وهيئات المعلومات تخضع لبرامج استعادة التكلفة محققة نتائج متميزة في كفاءة الأداء والإنتاجية والاعتماد على التمويل الذاتي. ورفع الكفاءة والإنتاجية في الأجهزة التي تدار وفق برامج استعادة التكلفة يتحقق من خلال إلزامها بالشفافية التامة في تحديد تكلفة خدماتها بالتشاور مع مختلف الجهات المعنية بنشاطها، والتي لا تشمل فقط الأجهزة الرقابية والمالية في الدولة وإنما أيضا الجهات المستفيدة من خدماتها، والتي بالتالي ستتحمل تكاليفها، بحيث تستطيع تلك الجهات أن تعترض على أي تكاليف غير ضرورية أو مبالغ فيها وفق معايير أداء دقيقة كتلك المطبقة عادة في القطاع الخاص، ما يضطر الجهاز الحكومي إلى ضبط تكاليفه ورفع كفاءة أدائه بما يمكنه من تقديم الخدمة بأقل تكلفة ممكنة. وتمتاز برامج استعادة التكلفة على التخصيص في أنها أكثر ملاءمة عندما يكون غير متوقع قيام منافسة حقيقية في القطاع المستهدف بالتخصيص بسبب كون طبيعة النشاط تحتم بقاءه احتكارا طبيعيا. كما أن تكلفة الخدمة في هذه الحالة تكون أقل نظراً لأن الجهاز الخاضع لبرنامج استعادة التكلفة يحظر عليها تحصيل إيرادات تفوق تكاليفه وملزم بتخفيض رسومه متى ما زادت إيراداته عن تكلفة خدماته. بينما في حالة التخصيص فإن الجهاز المخصص ملزم بتحقيق أرباح تبرر الاستثمار الخاص في ذلك النشاط، ما يرفع تكلفة خدماته على المستفيدين. وحيث إن القطاعات المستهدفة بالتخصيص في المملكة حالياً مثل المياه والصرف الصحي، تحلية المياه المالحة، الخطوط الحديدة، إدارة الطرق، خدمات المطارات، خدمات البريد، صوامع الغلال ومطاحن الدقيق، خدمات الموانئ، وخدمات المدن الصناعية هي في الغالب قطاعات من غير الممكن نشوء منافسة حقيقية فيها في حال تخصيصها، وإنما سينشأ احتكار طبيعي غير صحي. وبما أن كافة المؤسسات العامة التي أنشئت حديثا لتنظيم العديد من الأنشطة مثل هيئة سوق المال وهيئة الاتصالات والهيئة العامة للغذاء والدواء وهيئة المدن الصناعية تقدم خدمات تستفيد منها فئة يمكن تحديدها بدقة. لذا فإن الحل الأمثل لها جميعاً هو في تحويلها إلى أجهزة تدار وفق أساليب تجارية تخضع لبرامج استعادة التكلفة، وفق ضوابط صارمة تضمن رفع فعاليتها وكفاءة أدائها من خلال الرقابة المشتركة من كل من السلطات الرقابية والمالية في الدولة، ومن الجهات المستفيدة من الخدمة. وأن يوضع لكل جهاز برنامج زمني تدريجي يُحدد فيه نسبة استعادة التكلفة اللازم تحقيقها، ترتفع سنوياً بهدف تحقيق استعادة كاملة لتكاليف الخدمات خلال فترة محددة كلما كان ذلك ممكناً. ما يجنبنا تبعات أي قرار تخصيص لا ينفذ بصورة ملائمة، وفي نفس الوقت نضمن تخلص الدولة من عبء الصرف على أجهزة يمكن تمويل نشاطاتها من المستفيدين من خدماتها بإدارتها وفق معايير تجارية تزيد من قدرتها على تغطية تكاليفها وتقديم خدماتها بأسعار تنافسية.