تجد الولاياتالمتحدة نفسها عند مفرق طرق. لن يتوقف الأمريكيون بعد يوم الثامن من نوفمبر 2016 ليسألوا أنفسهم ماذا هم فاعلون بالرئيس الجديد؟ أو ماذا هو كرئيس فاعل بهم خلال السنوات الأربع أو الثماني المقبلة؟. أتصور أن أسئلة أهم من هذا السؤال أو ذاك سوف تفرض نفسها ليس فقط على الأمريكيين ولكن أيضا علينا وعلى العالم بأسره. لم تكن الحملة الانتخابية بأي مقياس حملة عادية. أقل ما أستطيع قوله إنها كانت حملة مشحونة بأفكار جريئة مشتقة من خارج سياق حملة تجري لانتخاب رئيس للولايات المتحدة وعلامة فارقة في مسلسل التطور الاجتماعي- الثقافي في أمريكا بخاصة والغرب عامة، وكانت في الوقت نفسه، فاتحة عصر لن يكمل ما قبله أو يستطرد فيه إلا بقدر استهانته به وتحقيره لكثير من رموزه وإنجازاته. أوجز الوقت وأختصر الكلام وأذهب مباشرة إلى الأسئلة التي بدأت بالإشارة إلى أنها أهم من سؤال تقليدي تسأله الشعوب «صباحية» إعلان فوز مرشح على آخر وانتقال المنتصر إلى البيت الأبيض، حيث تنتظره ثمار الحملة الانتخابية. السؤال الأول: هل بدأت تصدق توقعات أو نبوءة قارئي المستقبل الذين توقّعوا أن يشهد القرن الجديد اهتماماً أقل بالمسائل الاقتصادية واهتماماً أكبر بالشؤون الاجتماعية- الثقافية؟. ما أعنيه هو أن الحملة فاجأتنا وفاجأت كثيرين غيرنا حين كشفت لنا عن تركيز نسبة غير بسيطة من الناخبين على قضايا العرق واللون والدين والطائفة والهجرة والأصل الاجتماعي. كان غريباً علينا أن نرى مشكلات الهجرة وقد صارت في مقدمة انشغالات الأمريكيين، وبالمناسبة كذلك انشغالات الأوروبيين. كان غريباً أنه بعد سبعين عاماً من إعلان نهاية التمييز العنصري في كافة ولايات أمريكا نعود لنرى ألوف الناس ترحب بخطاب ترامب العنصري، ولا تهتم بخلو خطابه الانتخابي من إشارة جادة إلى مستقبل الرأسمالية والنظام الاقتصادي الأمريكي. لم نلاحظ اهتماماً غير عادي من المرشح الديمقراطي والأمريكي على حد سواء بالقضية الاقتصادية في وقت لم تكد أمريكا تتجاوز بشكل حاسم أزمتها التي اقتربت من عامها العاشر. أكثر الاهتمام تشتت بين قضايا الوجود الإسلامي في الولاياتالمتحدة وهجرة المكسيكيين ولجوء السوريين والتمويل الأجنبي لحملة هيلاري كلينتون وتاريخ النساء في حياة ترامب. تكمن الخطورة، أو الأهمية، في أن تطوراً مماثلاً يحدث في القارة الأوروبية وفي روسيا فلاديمير بوتين وفي معظم دول الشرق الأوسط. في كل هذه المواقع تهتم نسب عالية من الرأي المسيّس بقضايا ثقافية- اجتماعية على حساب الاهتمام بالقضية الاقتصادية. السؤال الثاني: هل كان وصول امرأة إلى الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية الأمريكية دافعاً لدعم التيار الذي يعتقد أن المرأة حصلت على نصيب من الحقوق أخل بمبدأ المساواة بين الجنسين؟ حدث بالفعل أن ارتفعت أصوات نساء يطالبن بمناصب في قيادة الجيوش البرية والبحرية والجوية. بل راح آخرون وأخريات يرفعون شعار الحاجة إلى عقد «المساواة التاريخية»، بمعنى تعويض النساء عما فاتهن عبر القرون من امتيازات انتزعها الرجال انتزاعاً. قيل مثلاً لماذا لا يمنع الرجال من ممارسة حق التصويت لمدة مائة عام كقسط مناسب في حملة تعويض النساء. في الوقت نفسه راح رجال من المدافعين عن حقوق الإنسان يقترحون قصر التعيين لحرس السجون على النساء لما عرف عنهن من رقي وتحضر ونعومة. السؤال الثالث: لماذا بدت الحملة الانتخابية في نظر البعض إحدى الخطوات الأخيرة في مسيرة سقوط اليسار في الغرب خاصة والعالم بشكل عام؟ لا شك أن سقوط اليسار أو انحداره سابق على الحملة الانتخابية، فهو مرتبط بشكل وثيق بانفراط الاتحاد السوفييتي والشيوعية، وبشكل لا يقل أهمية بما أطلق عليه صعود الإنسان الرقمي، وأقصد به الإنسان الجديد الذي نشأ وتدرب على أساليب التكنولوجيا الإلكترونية والرقمية. أغلبية أبناء هذا الجيل مبرمجون على ذهنية براغماتية وعملياتية ابتعدت بالكثيرين منهم عن دهاليز وقضايا التفكير الأيديولوجي والتقدمي والصراعات الطبقية ونقد نظريات الهيمنة والإمبريالية. الأمر المؤكد أيضاً هو أن هذه الحملة تسببت في التعجيل بالسقوط، حيث إنها أبرزت بشكل واضح خطورة الدور التخريبي الذي مارسته القوى الشعبوية بقيادة ترامب وأمثاله. الشيء نفسه حادث في أوروبا، حدث خلال حملة «البريكسيت» حين خرجت قوى الشعبوية من كلا اليمين واليسار تعبث بالأنماط الديمقراطية في التعامل مع الأحداث المصيرية. إلى جانب هذا يجب ألا نتجاهل حقيقة أن اليسار الديمقراطي ممثلاً في أحزابه الرئيسية ورموزه القائدة تخلى عن مبادئه وراح يحتضن أو يسعى لأحضان القوى المصرفية وقوى الأعمال، تاركاً الساحة لتملأها تيارات وتنظيمات وقيادات شعبوية. حدث هذا ويحدث في فرنسا والمملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا، وحدث لسيريزا في اليونان ولفلول الشيوعية في روسيا ولتيارات عديدة في الشرق الأوسط كما في مصر وفي آسيا كما في الهند وتايلند والفلبين. يقول إعلام النخبة الحاكمة في أمريكا إن ترامب والشعبويين أهانوا أمريكا منذ أن بدأوا يرددون عبارة «فلنجعلها عظيمة مرة أخرى». هؤلاء يتركون انطباعًا لدى الشعب الأمريكي وخصوم أمريكا في الخارج بأن الولاياتالمتحدة دولة «أفلست وفي طريقها للانهيار».. دولة جفّت إن صح التعبير. سمعنا في مصر من يردد هذه العبارة عند الحديث عن استعادة عظمة مصر وأمجادها، ولم يفتني أن أنبه منذ البداية إلى خطورتها، لأنها تحمل في ثناياها معنى الإهانة وتسعى لتحقير الشعب المصري الذي يحمّلونه مسؤولية انحدار مصر. يرد الشعبويون على لسان ترامب بالقول إن أمريكا أصبحت دولة فقيرة، دولة كدول العالم الثالث فلنجعلها عظيمة مرة أخرى. يقول هذا الكلام مرشح للرئاسة الأمريكية لا يحترم الدستور بل لا يخفي احتقاره له، هي المرة الأولى في تاريخ أمريكا التي يصل فيها إلى مرحلة الترشيح لمنصب الرئاسة شخص لا يؤمن بالديمقراطية ويستهين بدستور البلاد. أي مستقبل ينتظر أمريكا برئيس شعبوي يكره الديمقراطية وينوي اعتقال قادة المعارضة؟ وأي مستقبل ينتظر أمريكا برئاسة هيلاري إذا كانت المعارضة لها شعبوية ويقودها ترامب؟ *تنشر بالاتفاق مع موقع التجديد العربي