بلادنا هذه أرض الأشداء، الذين لم يقهرهم الفقر الذي لازم أرضنا قروناً، فأجدادنا لم يستكينوا للظروف المعيشية الصعبة، بل كانوا يتدبرون أمورهم (التدبير نصف المعيشة) ويهاجرون ويرتحلون ضمن بلدان جزيرة العرب وخارجها بما في ذلك العراق والشام شمالاً والهند شرقاً، ليوفروا لأهاليهم حياةً أفضل. فلا ننسى أن صفعة «اللؤلؤ الصناعي» أثرت على النواخذة وأهل «الغيص» في شرق البلاد لكن الجميع تعاون وأوجد بدائل رغم قلة الحيلة. وعند ما اكتشف النفط، نجحت الشركات صاحبة الامتياز بتكوين «جيش» من السعوديين قوامه نحو 20 ألفاً للمساهمة في استخراج النفط، استقطبتهم من الواحات والصحاري والبلدات والقرى، فأبدعوا وأنتجوا. لعل ما تقدم يلمح إلى حياتنا قبل النفط وفي بداياته، لكن التحدي الكبير هو العمل لغدٍ أفضل، ومن أجل ذلك فبلدنا بحاجة لتخطيط طويل المدى، وتنبثق عن هذه الحاجة ثلاث نقاط: 1- أن الرؤية السعودية 2030 ضرورية. 2- لن نتمكن من إنجازها إلا في بيئة حاضنة إيجابية. 3- تحقيق الرؤية بنجاح يتم بوضع خطة تنفيذية عالية الكفاءة تتسم بالتنفيذ الحصيف. فيما يتصل بإيجاد بيئة حاضنة إيجابية، فقد نُشرت وثيقة «الرؤية السعودية 2030» منذ ستة أشهر، لكنها- كما تناولت في هذا الحيز مراراً- لم تحظ حتى الآن بحملة تواصل (communication campaign) تشرح وتبين وتناقش الرؤية للشيب والشباب وللقطاع الخاص بتنوع منشآته. أقول هذا مدركاً أن العديد من المؤسسات الحكومية تعمل ساعات طويلة استعداداً للتجهيز لتنفيذ الرؤية، لكن لن يعزز المناخ الإيجابي أن «يقبع» الجهود ذات الصلة بالرؤية في إطار مغلق خلف أبواب موصدة، إذ يمكن الجدل أن أفضل الممارسات لإعداد الرؤى وبما يساهم في نجاحها أن يَمتلكها الوطن بطوله وعرضه وارتفاعه. وهذا بحاجة لمسار. وعند نشر الوثيقة، عُرضت بصيغة رفعت التوقعات دون تفاصيل كافية؛ ولإيضاح النقطة فحتى اللحظة لم يُعلن التتابع الزمني لتنفيذ الرؤية بتحليل يُبين ما الذي ستحدثه- بعون الله- مرحلياً من مكاسب للمجتمع السعودي ولاقتصاده، أي وضع «مُجَسم» يوضح كيف ستتابع التحولات حتى العام 2030 عند تطبيق الرؤية بالكامل. حالياً، لو أجرينا استقصاءً طرحنا عبره السؤال: كيف ستكون البلاد في عام 2030؟ فستأتينا إجابات متفاوتة. قد يقول قائل: دونك أهداف الرؤية، اقرأها! ما أقصده هنا: أولاً، التوعية، ثم الفهم، ثم تكوين رأي للمساهمة في التطبيق. في هذا الزمن الذي يعج بالتقنيات الرقمية، والذي نشاهد فيه كيف أن بعض الجهات الحكومية تنفق مبالغ لإقامة «سرادق» لحفل قد يستغرق ساعات لوضع حجر الأساس، وجرت العادة إنتاج فيلم قصير (وعادة ما يكون تخيليا) يجسد المشروع تجسيداً افتراضياً، ماهية المشروع وتفاصيله بما في ذلك الحال المتخيل عند إنجاز المشروع. فلماذا لم يُبذل جهد مماثل لتوضيح وتجسيد المشروع الاستراتيجي حالياً وعلى مدى 15 عاماً قادمة، ألا وهو مشروع «الرؤية السعودية»؟ لماذا لم نعد وسائط توضيحية بما في ذلك أفلام توضيحية، وندوات نقاشية، وجلسات حوار؟ وليس القصد زيادة «الهذر» وتعطيل الجهد التنموي، ولكن لكي يتحقق أوسع قدر من الفهم ومن ثم إدراك قيمة وجود الرؤية بما يولد قناعة، وبالقطع، فلا تعطيل إذ أن ذلك الجهد «التواصلي» يمكن أن يُنجز بالتوازي، إذ علينا إدراك أن وثيقة «الرؤية السعودية»، ككل الرؤى الوطنية في دول العالم، هي وثيقة «حية»، أي قابلة للتطوير المستمر وفق ما يتاح من بيانات أكثر تحديثاً وتفصيلا ودقة ولمعرفة أفضل لمجريات الأمور في مجتمعنا واقتصادنا والعالم من حولنا، فكلها تؤثر جوهرياً. بل يمكن القول، أن المسارات المتوازية لابد منها: 1- مسار تنفيذ الرؤية، و2- مسار تقييم التنفيذ، و3- مسار التخطيط ديناميكياً يستوعب المستجدات وليرتقي بجودة الخطة التنفيذية ويجعلها أقل تكلفة وأقرب للنجاح. أما الجانب شديد الأهمية لسلامة التنفيذ فهو التخطيط، ومع ذلك فحتى الآن لم تنشر وثيقة تبين خارطة طريق لتنفيذ الرؤية، وماذا سينفذ؟ ومتى سينفذ؟ وكيف سينفذ؟ خارطة الطريق هذه تعني: تحديد المعالم وصولاً لخيارات محددة، وتصميم السياسات الأنسب لتنفيذها، وحساب التكلفة المالية والموارد اللازمة للتنفيذ، وبالقطع لا ننسى أن «التسلسل» الصحيح هو أساس لنجاح تنفيذ أي خطة والرفع من كفاءتها؛ إذ علينا ألا ننسى ما عانينا منه نتيجة لضعف التسلسل؛ الذي يعني في أبسط صوره أن نشق طريقاً ثم يسفلت ثم يُحفر وتزال السفلتة لوضع شبكة الماء، وتتكرر المعاناة مراراً! فكيف إن كان الأمر يتصل بمشروع تحول هائل يطال كل جنبات الحياة؟! وليس خافياً، أن التمعن في خارطة الطريق والخطة التنفيذية المصاحبة لها، ومراجعة الخيارات المتاحة في مسعى لانتخاب أكثر الخيارات ملاءمةً، هو أمر أساسي، ويكتسب أهمية متعاظمة مع مسعى البلاد لمنع الهدر ورفع كفاءة الإنفاق؛ فكما ندرك جميعاً أن هناك عدة خيارات لتنفيذ أي أمر، وتتفاوت تكلفة الخيارات، ولذا لابد من المفاضلة بينها مفاضلة تحليلية، إذ المطلوب ليس فقط تنفيذ الرؤية 2030، بل كذلك تنفيذها بكفاءة عالية (أقل تكلفة وأعلى منفعة).