«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية التحول الوطني 2030.. حتى لا ننسى
نشر في اليوم يوم 22 - 05 - 2016

قال تعالى «وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين» - سورة الذاريات آية 55.
الآن وبعدما قيل وكُتِب في رؤية التحول الوطني (السعودية 2030) من ترحيب وتبجيل وتحفّظ ومعارضة، وغير ذلك من التحليلات التي تتناول هذه الرؤية بإيجابية وأخرى تشكيكية، خرجت الرؤية أو أُخرجت في إطارها الواسع وأبعادها المتشعبة وملامح خطواتها الطموحة. كما استُقبلت الرؤية محليًا وإقليميًا وحتى عالميًا كحدثٍ نادر السوابق على أرض الجزيرة العربية في العصر الحديث.
لا شك في أن فكرة التحول الوطني وإخراجها إلى حيز الوجود ومن ثمَّ إقرارها في مجلس الوزراء، لا شك أنه يُعد حدثًا تاريخيًا يجذب الانتباه ويستحق الزخم الإعلامي الذي رافق الرؤية أو أُثير حول فكرة الرؤية وتوقيتها. ولا جدال في أن رؤية بهذه الحجم وهذه الأبعاد الفكرية والقومية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والعالمية تمثّل انتقالًا نوعيًا ونموذجيًا يستلزم تغييرات جذرية لأنماط الحياة المألوفة في المجتمع السعودية المتخدّر بثروته النفطية الناضبة. ولعل انتقالًا نموذجيًا (Paradigm Shift) بهذا الحجم والأبعاد بحاجة ماسة إلى بيئة إيجابية حاضنة تتوفر فيها متطلبات التغيير ومعطيات التقبّل.
كما أن من أهم التوجهات الإيجابية التي نصّت عليها الرؤية أن جعلت من الفرد والمجتمع السعودي بجناحيه محورًا للتنمية والتغيير والتطور في خطة التحول الوطني 2030، وهذا المطلب طالما راودنا لتضييق الهوّة بين تطورنا المادي ومراحل تدرجنا الفكري والثقافي والمهني والاجتماعي. وقد كان ولا يزال لهذا التفاوت أسبابه من الاعتقادات الخاطئة والمعوقات الاجتماعية والمهنية والإدارية التي لعبت أدوارًا رئيسة في إحداث تباطؤ في تطور قدراتنا الثقافية والبشرية، وحدّت من مشاركة المرأة السعودية في الحياة العملية.
وبما أن رؤية التحول الوطني تصبو، في المقام الأول، إلى تغيير فكر ونمط ومسار الحياة في المجتمع السعودي والانتقال به إلى مسار حياة جديدة، فلا بد من استحداث أساليب فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وإدارية جديدة، وذلك لضرورة أن تتواكب وتتواءم مع توجهات ومتطلبات رؤية التحول الوطني في مسارها الجديد. ومن الأهمية بمكان، في هذا السياق، أن أشير إلى أن من أسباب الفشل والتعثر في مثل هذه التحولات الجذرية، أن ينتقل المجتمع انتقالًا كليًا من نمط حياة إلى آخر وهو متمسك بإرثٍ فكري وثقافي واجتماعي واقتصادي وإداري لا يتواكب مع متطلبات ونمط ومسار حياته الجديدة. فتحولٌ بهذا الحجم والشمول والسرعة يتطلب وضع مواصفات محددة لمستوى الأداء والمتابعة والمساءلة، وسنّ تشريعات وقوانين إدارية مرنة تضمن كفاءة التنفيذ والحوكمة والرقابة الإدارية والفنية، وبيئة مواتية تتوفر فيها ثقافة متفاعلة مع المتغيرات والتطور، ومجتمعا يتحلى بروحٍ وطنية ومسؤولية مدنية.
والمملكة العربية السعودية لها من الدراية النافذة والتجارب الناجحة في مجالات التحولات الوطنية ما يؤهلها لتنفيذ رؤيتها الوطنية 2030 بنجاح، إن شاء الله. وفي هذا السياق، علّنا لا ننسى أو نتناسى ما سبق رؤية التحول الوطني 2030 من تحولات وطنية تاريخية غير مسبوقة على أرض الجزيرة العربية، كملحمة التوحيد وتحولات الحقبة النفطية، التي نعيشها اليوم، فرؤية التحول الوطني 2030 هي المرحلة الثالثة في تاريخ التحولات العظيمة والمدهشة التي خاضتها المملكة بنجاح منقطع النظير وعلى مدى (114) مائة وأربعة عشر عامًا من تاريخها المشرق.
وإذا ما استعرضنا بلمحة موجزة التحولات الوطنية التي سبقت رؤية 2030، وما حققته تلك التحولات من إنجازات وطنية وحضارية مدهشة رغم الصعاب والتحديات الطبيعية القاسية والبيئات المعادية والشُّح البالغ في الموارد المالية والقدرات البشرية، فهذا يجعلنا نتفاءل خيرًا بنجاح رؤية 2030.
التحول الأول: ملحمة التوحيد
كانت الجزيرة العربية فيما سبق ملحمة التوحيد غارقة في حقبة تاريخية شهدت نقصًا واضحًا في كثير من ضرورات الحياة الإنسانية الكريمة. فقد كانت شبه الجزيرة العربية، مع اتساع رقعتها الجغرافية، وخشونة ووعورة بيئتها الطبيعية، وقلة مواردها المائية والاقتصادية، وتباعد مناطقها السكانية، تخضع لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية غاية في القسوة، وتعاني من شظف العيش لعقودٍ متتالية.
وعندما شاءت إرادة الله وقدرته أن تخلِّص معظم أرجاء الجزيرة العربية من محنتها وظروفها المأساوية، على يد قائد فذ اجتمعت في شخصيته خصالٌ وصفات حميدة كثيرة، أثرى الله، سبحانه وتعالى، بها شخصية الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وسيرته الروحية والسياسية، فجعلته يسير بهدي ربه، برؤية واضحة وباستراتيجية ثاقبة ومتطورة مع تطور الأحداث والظروف الزمنية، في ملحمة توحيد وبناء.
فملحمة التوحيد تم التخطيط الاستراتيجي لها والانطلاق في تنفيذها في مستهل القرن العشرين، مع مطلع عام 1902م، الموافق لعام 1319ه، واستمرت ثلاثين عامًا، بقيادة شابٍ كان، في حينه، أصغر سنًا من حفيده، الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وتحت ظروفٍ بيئية وموارد مالية وبشرية وُصِفَت بالقسوة والشُّح؛ ولكنها أثمرت عن إنهاء التناحر القبلي، وفرض الأمن، والاستقرار السياسي، وجمع الشمل، وتوحيد البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من تلك الأحداث والظروف القاسية التي اجتاحت العالم كله، إلا أن قدرة الله وإرادته أبت إلا أن تعيد للأرض المقدسة أمنها واستقرارها على يد واحدٍ من خيرة أبنائها خُلُقًا وإيمانًا، بعد أن زوّده الله بصفات القيادة الوافية، التي أساسها الحكمة والشجاعة والرؤية المتبصرة، كما ألهمه ربه الصبر عند المحن، والعفو عند المقدرة، وتوّجه بالتواضع والصدق والفطنة والإقدام، مما جعله أهلًا للقيادة السياسية المظفّرة، وجمع الشمل وتوحيد الأمة. ولا شك، ولا خلاف، على أن الشخصية العبقرية للملك عبدالعزيز، وسيرته التاريخية تُعد مدرسة متميزةً، بل وجامعة شاملةً لراغبي التمعن في شؤون الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وللمتخصصين في حقول القيادة والإدارة والتخطيط الاستراتيجي.
التحول الثاني: اكتشاف النفط وتبعاته
ما كادت ملحمة التوحيد السياسي تكتمل حتى تم اكتشاف النفط وبدأت ملحمة التطوير والبناء التي غيرت معالم الصحراء، وأرست قواعد الدولة العصرية، التي أخذت بأسباب التطور والعمل المثمر في جميع ميادين وشؤون الحياة الحديثة، حيث أطلق الملك عبدالعزيز عجلة نموها، وسار على نهجه من بعده أبناؤه البررة، لتواصل المملكة العربية السعودية ارتقاء سُلَّم المجد والازدهار الحافل بالمنجزات الحضارية.
ولا غرو أن من يتأمل ويراقب هذه الإنجازات الباهرة، بموضوعية، سيصاب بالدهشة والإعجاب معًا، لما حققته المملكة العربية السعودية من قفزات متميزة في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي جاءت متوازية ومتتالية في زمنٍ قياسي من حيث الحجم والشمول وسرعة التنفيذ، مما جعل المملكة العربية السعودية تنفض غبار الماضي السحيق، وتواكب الزمن، وتتبوأ بمنجزاتها الحضارية مركزًا مرموقًا بين الأمم المتقدمة، كما جعلتها تحظى باحترام أغلب دول العالم، نظرًا لمنجزاتها الفريدة، ولمواقفها السياسية والاقتصادية المتزنة، ولتمسكها ببناء وإقامة علاقاتها مع دول العالم على أسس متينة وحضارية، يسودها الاحترام المتبادل.
ولا شك أن هذا التحول التاريخي الشامل للمملكة العربية السعودية أخرج شبه الجزيرة العربية كلها من سلة النسيان التاريخية، وأدخلها في قائمة الأمم المتطورة في زمن قياسي، وفي حقبة تاريخية تعرّض فيها العالم بأسره إلى هزات سياسية دامية، وتغييرات أيديولوجية مرعبة، ونكبات اقتصادية، وحروب عالمية طاحنة، بالإضافة إلى سرعة التطورات العلمية والاجتماعية، التي كان من نتائجها زوال العزلة بين المجتمعات، وتشابك المصالح الدولية، واحتكاك وتصادم الحضارات والمفاهيم والمعتقدات المختلفة. إن مثل هذا التحول التاريخي للمملكة العربية السعودية، تحت هذه الظروف العالمية المتقلبة، لم يكن حادثة ولا صدفة عابرة، وإنما كان حدثًا يجذب الانتباه ويشد التفكير المتبصر والتحليل المتمعن.
التحول الثالث: رؤية التحول الوطني 2030
لا شك أن رؤية التحول الوطني 2030 قد استوفت حقها في البحث والتحليل والتعليق والتبجيل، ما يجعلني أختصر الكلام في مضامين وأهداف الرؤية، وأصوّب اهتمامي على الجوانب التطبيقية المتعلقة بالاستراتيجيات المتوقعة، ومراحل التنفيذ، والاستشارات، والإجراءات التنظيمية والإدارية، والموارد المالية والبشرية المطلوبة لتحويل الرؤية ميكانيكيًّا من محطة الرؤى والطموحات إلى حقيقة على أرض الواقع. فهذه كلها أمور أعرفها جيدًا ولي فيها الكثير من القول النافع والعمل المثمر.
وقبل أن أبدأ برأيي وأدخل في الحديث عن المعطيات الميكانيكية المطلوبة لتحول فكرة الرؤية إلى واقعٍ وطني، أودّ أن أقطع الطريق على كل من يخطر في باله أن لي من وراء هذه المشاركة دوافع شخصية أو طموحاتٍ مَنصِبِيّة أو رغبة في الظهور الإعلامي والاجتماعي، لأنني مواطن قد بلغ من العمر عتيًّا، أمضى جُل عمره في خدمة وطنه، ولم يعد له من الطموحات الذاتية سوى حبّه المتأصل لوطنه. ومن هذا المنطلق، يشارك بما منحه الله من فكرٍ نيّر وعلمٍ نافع ورأي ناصح.
وضوح الرؤى وصدق المواقف والالتزام من أهم قواعد العمل بالفكر والتخطيط الاستراتيجي الذي لا يستقيم إلا بتكاتف الموارد المالية والبشرية، والمواهب الإدارية المدرِكة للعمل بروح الفريق الواحد. والاستراتيجية، بجناحيها الفكري والتخطيطي، تُعنى باستقراء الماضي ومعرفة الحاضر واستشراف المستقبل، وهي أفضل وسيلة للانتقال من الحاضر إلى المستقبل، إذا أُحسِن توظيفها واستقام الالتزام بقواعدها.
وإذا ما أخذنا برأي خبراء الفكر والتخطيط الاستراتيجي والباحثين المتخصصين في شؤون وأحوال المستقبل، فإن الأمر يتطلب اتباع أسس عملية، مستوحاة من بيئة الخبرة الواقعية، المبنية على المعلومات التي لها صفة النمو والتطور، أو الانكماش والتلاشي في المستقبل، للتنبؤ بأحوال وأحداث المستقبل. وقد أصبح التخطيط الاستراتيجي، بفضل تزاحم المعلومات والإحصائيات والتطور المعرفي والتقني، علمًا بذاته، يُدرَّس في الجامعات والمعاهد المتخصصة، وتُبنى على أساسه خطط التنمية الاستراتيجية في كثير من دول العالم. ولا شك في أن ثورة المعلومات العلمية وتدفقها بسرعة فائقة، في الوقت الحاضر، قد ساعدت على تصور المستقبل بشكل أوضح وبقدر أكبر من الدقة، كما أصبحت أساسًا متطورًا لوضع الخطط والاستراتيجيات السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي على أساسها تُبنى التوجهات المستقبلية، وعلى ضوئها تُتخذ القرارات المصيرية.
وقد أصبح العمل بالتفكير المنظم والتخطيط الاستراتيجي أسلوب حياة لا غنى عنه في المجتمعات المتقدمة، التي تدير بهذا الأسلوب المتطور شؤون حياتها الخاصة والعامة، وعلى أساسه تقوم إدارة الوقت والعمل والتطوير الاجتماعي والبشري وبرمجة مشروعات التنمية والاستثمار. كما تحوّل هذا التفكير المبرمج إلى سلاح بارع للمنافسة العالمية في مجالات التصنيع، والجودة، وغزو الأسواق، ومشروعات الاستثمار. وتقع اليابان وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في صدارة المجتمعات التي تعمل بهذا الأسلوب المتطور.
أما المجتمعات النامية - ونحن منها - التي لم تحتضن - بعدُ - الفكر العصري والبحوث التطبيقية، ولم تستوعب العمل بأسلوب التخطيط الاستراتيجي، فتظل مجتمعات مستقبِلة تابعة، وأسواقًا مفتوحة، ومصادر للمواد الخام غير المُصنّعة، ومناطق مهددة بالاستغلال الاقتصادي والعسكري.
وإذا ما أخذنا بهذا الوصف الواسع للفكر والتخطيط الاستراتيجي، فهل لدى رؤية تحولنا الوطني استراتيجيات محكمة وكوادر بشرية مدركة وأساليب إدارية وأنظمة تشريعية تفقه العمل بهذا الفكر المنظم؟
لقد لُقّبَت خططنا الخمسية بالاستراتيجيات، وقد تعودنا على سماع كبار مسؤولينا يعلنون عن استراتيجيات فضفاضة كلما اعتلوا مناصب جديدة - استراتيجيات تموت بإعلانها!
فهل نحن على موعد مع العمل بفكر العصر وسلاحه؟
أما الهيكلة القيادية والإدارة لرؤية التحول الوطني، فإنني أرى أن تكون على مستوى هيئة أو وزارة مشاريع يُناط بها قيادة وإدارة الإطار العام للرؤية، ووضع مراحل وجداول التنفيذ والأولويات وتحديد وتوفير الميزانيات لمشاريع رؤية التحول الوطني، والقيام بالتنسيق مع جهات التنفيذ، ويكون من مسؤولياتها أيضًا المتابعة والرقابة والمساءلة، وأن تكون وزارة المشاريع مسؤولة عن تقدّم مسيرة التحول الوطني أمام الملك أو من ينوب عنه.
كما يجب أن تكون وزارة مشاريع الرؤية هي المسؤولة عن جميع العقود الاستشارية الخاصة بمشاريع رؤية التحول الوطني. وفي هذا السياق، ومن واقع خبرتي ومعايشتي للمؤسسات الاستشارية، فإنني أحذّر من المبالغة في الاعتماد المفرط على ما تقدمه المؤسسات الاستشارية ومستشاريها من آراء ومقترحات قد لا تتلاءم مع بيئتنا الثقافية والاجتماعية وقدراتنا المالية والبشرية. والمؤسسات الاستشارية تلعب أدوارًا إيجابية إذا ضبطت حدود مشاركتها، ولكن إذا أُطلق لها العنان فإنها قلما تتردد في أن تأخذ الكلام ثم تبيعه على أصحابه بباهظ الأثمان، فهي تجيد فن الإقناع والبقاء كالعلق في اللهاة.
وأكثر ما يُخيفني ويقلقني على رؤية 2030 هو مدى إدراك مجتمعنا ومؤسساتنا العاملة للمعوقات الطبيعية والفنية والإدارية والتنظيمية وغيرها من المعوقات المتأصلة في بيئتنا الطبيعية وفي حياتنا الثقافية والاجتماعية، التي لا بد من أخذها في الحسبان بجدية لامتناهية في المراحل الأولى من بدء التنفيذ. ولا شك أن من هذه المعوقات ما تغلغل في عمق ثقافتنا وفي حياتنا العملية والاقتصادية والاجتماعية لسنواتٍ طويلة حتى أصبحت مركزية القرارات وبيروقراطية الإدارة وشخصنة المناصب والأهداف أعمدة لفكرنا الثقافي ودعائم لأساليبنا القيادية والإدارية، إلى أن أصبحنا مجتمعًا لا يرى إلا بعينٍ واحدة ولا يفكر إلا برأسٍ واحدة، ولا يتّخذ قرارًا إلا من منصبٍ واحد. وإذا أضفنا تقديم الولاءات والوساطات على القدرات والهمم إلى هذه المعوقات، فإن المشكلة أكبر، والطريق إلى نجاح الرؤية قد يكون شائكًا ومقلقا. لقد كانت ولا تزال هذه المعوقات مصدرًا للتبلّد الإداري وسببًا للتسيّب الوظيفي وهبوط الإنتاجية وتثبيط الطموح والعزائم والإبداع. فعلى ضوء هذه المعطيات، أرجو أن نكون أكثر واقعية في التقريب بين طموحاتنا وأقوالنا من جهة، ومدى حقيقة قدراتنا على التخلُّص من سجلنا الحافل بهذه المعوقات، من جهة أخرى.
إن الرؤية السعودية 2030 تمثّل انتقالًا نوعيًا جديرًا بتغييرات جذرية شاملة لجوانب الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعملية والتنظيمية. وحدثٌ بهذا الحجم والشمول يتطلّب العمل بقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) سورة الرعد، آية 11. فهذا التحول يستحق من الشعب السعودي كل الترحيب والتغيير والمشاركة بكل العيون المبصرة والرؤوس المفكرة والسواعد المنتجة.
ولا شك في أن التغييرات والتعديلات الوزارية الجديدة تسير في الاتجاه الصحيح لكنها في حدّ ذاتها لا تكفي للتغلّب على رصيدنا الحافل بالمعوقات المتمكنة من عصب فلسفة الحياة في المجتمع السعودي. وإن كانت الرؤية تُضيء بآفاقٍ واسعة وطموحات لامتناهية، فإن ذلك يتطلب ويحتّم توسيع دوائر القيادات الإدارية وتفكيك البيروقراطية وفتح الأبواب أمام حكومات المناطق للمشاركة الفاعلة في سلسلة التخطيط والإدارة والتنفيذ تحت إشراف ورقابة هيئة أو وزارة رؤية التحول الوطني.
وفي نهاية الحديث عن رؤية التحول الوطني 2030، قد يتساءل البعض عن الحاجة إلى هذه الرؤية أو الضرورة لتغيير أوضاع حياتنا القائمة؟ لا شك أن المتتبع لتاريخ المملكة العربية السعودية، ومعها دول مجلس التعاون سيشهد بأن مجتمعاتنا الخليجية تعيش، في وقتنا الراهن، عصرًا ذهبيًا بجميع المقاييس، وذلك بفضلٍ من الله، جلّت قدرته، ثم بفضل قياداتنا المتعاقبة وثرواتنا النفطية. والنعم لا تدوم إلا لمن شكر الله عليها وعمل على صيانتها. ومجتمعاتنا المتمتعة بثرواتها النفطية الناضبة، مسؤولة أمام الله وأمام التاريخ وأمام الأجيال القادمة، وهذه مسؤولية توجِب علينا البحث عن بدائل وتفرض علينا التغيير في نمط الحياة.
وحقيقة الأمر التي لا جدال فيها أن رؤية التحول الوطني 2030، تضعنا على أبواب تغيير جذري نموذجي (Paradigm Shift) في نمط حياتنا الحالية، ومما لا شك فيه أن نجاح هذا التحول الشامل هو مسؤوليتنا جميعًا وذلك يتطلب المساندة الحازمة من المجتمع السعودي وفي مقدمته رجال التربية والتعليم، ورجال الفكر والثقافة، ورجال الصحافة والإعلام، وعلماؤنا الأفاضل، وقياداتنا الإدارية والتشريعية والمالية في كل قطاعاتنا الحكومية والخاصة. لا بد من أن يحمل الجميع لواء الرؤية والعمل بجدية على تذليل كل ما يعيق مسار التحول الوطني.
وأختم بقولي: لقد كان لملحمة التوحيد دولتها ورجالها، ولحقبة النفط وتبعاتها دولتها ورجالها، واليوم تبدأ الرؤية السعودية 2030 بدولتها ورجالها، فلكل زمان دولة ورجال. فأدعو الله جلّت قدرته أن يوفق كل من يعمل على هذه الرؤية، وأن تُحقق بنماء ورخاء.
التحول التاريخي الشامل للمملكة أدخلها قائمة الأمم المتطورة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.