لا شك أن تركياوروسيا تبحثان عن مصالحهما، حتى وإن كانت المنطقة تذهب للمزيد من التوتر، وليس في أمر زيارة الرئيس بوتين إلى أنقرة الجديد الكثير، فالدولتان أطفأت كل منهما موجة الغضب التي تحققت بعد اسقاط طائرة روسية فوق الأراضي التركية في تشرين الثاني الماضي، وزار الرئيس أردوغان موسكو في آب الماضي، والتي فتحت الباب للمزيد من التعاون مع الأتراك وغضت الطرف عن تقدم القوات التركية في العمق السوري. بوتين في زيارته إلى أنقرة أكد دعم بلاده لتركيا، وأردوغان بادله بالشكر على دعم موسكولتركيا ضد محاولة الانقلاب التي حدثت، وفي الأفق تطلعات لمستقبل أفضل في العلاقات، وتفاهمات تعزز القوة الروسية ولا تضعفها بالرغم من أن تركيا عضو فاعل ومهم في حلف شمال الأطلسي وفيها أهم قواعده العسكرية، إلا أنها تمضي بخطى جيدة نحو مصالحها الذاتية خاصة في ظل تعاظم تهديدات القوى المتطرفة وعلى رأسها داعش، وفي ظلال التوافق على مصير الأكراد في سوريا والعراق، وهو أمر تتفق فيه الرؤية الروسية مع الأتراك، على خلاف الموقف الأوروبي وعلى رأسه الفرنسي المؤيد للأكراد. في هذا الصدد، تخرج تصريحات من فرنسا للرئيس هولاند، بأنه لن يستقبل الرئيس بوتين في زيارته المقبلة لباريس لافتتاح المركز الروحي الروسي. إجراء فرنسي رئاسي لا يخفي الغضب من الروس لاستخدامهم الفيتو ضد مشروع القرار الفرنسي الذي طرح في مجلس الأمن مؤخرا، ولم تتحقق الخسارة الفرنسية في «فيتو» الروس بل في التفافهم الخاطف على مشروعهم الذي قدموه وذلك بالحصول على التصويت المصري وهو ما أزعج الكل عربيا ودوليا. لكن وبالرغم من فشل مشروعي القرارين، إلا أن الروس كانوا الأكثر نشوة على ما يبدو، وهو ما ظهر في تصريحات بوتين وفي الإجراءات على الأرض السورية التي زرعتها روسيا بمنظومة الدفاع الصاروخية «أس 300» والتهديد الموجه للأمريكان في حال تصرفوا بشكل مزعج في سوريا. هذا كله سبقه إخفاق روسي أمريكي بتنفيذ اتفاق الهدنة بشأن سوريا ووقف القصف في حلب والذي قرر في التاسع من أيلول الماضي، ولم يكن الفشل سببه التعنت الروسي وحسب، ولا الرغبة من النظام السوري بالقصف فقط، بقدر ما يحمل فشلاً أمريكياً أيضاً بالقدرة على فرز معارضة معتدلة من القوى المقاتلة في حلب وغيرها، فالكل يرغب بالقتال ويرغب بالسلطة ويرغب بتغيير الموقف على الأرض، والمشكلة الكبرى في تكلس المعارضة السورية وفقدانها التأثير. للآن تظل سوريا عقدة العقد المعاصرة، برغم أهمية العقدة العراقية ومعركة الموصل الجاري التحضير إليها، وكل ما يحدث هو نتيجة لتفاعل عوامل الصراع، واكتشاف القوة الروسية في العمق العربي، ومعه الجوار التركي والإيراني في زمن ضعف أمريكي غير قابل للإنعاش. نتذكر خطابات الرئيس أوباما الذي لطالما شدد على الحل الدبلوماسي في سوريا والذي لم يُحدث وزير خارجيته أي حسم أو أي تقارب بين طرفي الصراع، وقول أوباما بأنه يدعم السوريين الذين يقاتلون من أجل الديمقراطية ضد نظام يقمعهم، كان مجرد كلام عابر، لا يحقق أي أثر، ويعكس الضبابية الأمريكية تجاه الأزمة السورية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر مباشرة ووضوحا، حين تهكم عام 2013 على القادة والساسة الغربيين الذين كانوا يعتبرون أكلة لحوم البشر في الجيش السوري الحر، «معتدلين». لم يكن مقبولا بعد ذلك إلا أن تتدخل موسكو في سوريا مباشرة، وبعد نحو عام على التدخل مباشرة في أيلول 2015، فبوتين لا يبحث ولا يرى ضرورة في البحث اليوم عن وجوه اعتدال بين القتلة كما يراهم، ليقنع العالم بصوابية حكمته ورأيه، في ضرورة البقاء على الأسد، فالقيصر الذي لا يتخيل وصول مجاهدين إلى حواف إمبراطورتيه الناهضة والمنبعثة من رماد القياصرة الكبار، بادر للتحرك باكرا وأربك العالم، فكانت خطوته نحو شبه جزيرة القرم التي نشبت بها ثورة عام 2014. ثمّ قرر توجيه صفعة لأوكرانيا وامريكا معها، والتي لا يعجبها اليوم ما يحدث من تفرد روسي في الإقليم، لدرجة أن سافر رئيسها بيترو بوروشينكو قبل أسبوع لنيويورك لدعم التحرك الفرنسي الأمريكي في مجلس الأمن، لدعم الوفد الأمريكي باتهام روسيا، بقصف قافلة المساعدات الإنسانية في سورية، لكنه سفر كان بلا معنى ولا أثر. أخيرا.. بوتين اليوم وبعد زيارته لتركيا وحصوله على دعم مصر في مجلس الأمن لمشروع قراره لم يحصل على تأييد تسعة أعضاء، يؤكد زعامته الإقليمية وقوته الفاعلة، في ظلال الضعف الأمريكي والمزيد من التخبط الأوروبي أمام مشكلتي الأمن والهجرة، وبذلك تظل الأزمة السورية مفتوحة لعام جديد، وبالتالي التمديد لبقاء الأسد في السلطة إلى حين إنضاج ظروف ازاحته.