وكما يسميه علماء النفس: (متلازمة الانسحاب من الحياة) وهي حالة نفسية مخيفة، يبدو صاحبها محطما بعد أن تضاءلت طموحاته وأهدافه إلى حد الصفر ! فلم يصبح له في الحياة أمل ينشده، ولا رغبة له في العيش، فاقدا كل شيء في كلِ شيء، وغالبا ما تأتي هذه الحالة بعد تعرض صاحبها لصدمات متتابعة، فتأتي الأخيرة لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد يكون هذا فشلا ذريعا في تحقيق أمنية، أو في صفقة مالية كبيرة أذهبت حصيلة كل عرق جبينه وشقاء عمره فأصبح بعدها صفر اليدين، أو في صدمة عاطفية أسودت الدنيا بعدها في عينيه، أو في فقدان عزيز لديه فتساوى في دنياه (الموت والحياة) ! أو أن يكون بالأمس وسط بيته وأهله آمنا مطمئنا، ثم أشرقت عليه شمس اليوم الثاني وقد فقد كل شيء !! تعطلت قدراته تماما، وفقد السيطرة على نفسه وتفكيره، صار هاجسه «ألا شيء يستحق العيش» مثل هؤلاء يعيشون بيننا حتى أصبحت قلوبهم صماء وفي آذانهم وقر وفي أعينهم عمى، ولم تعد كلمات المواساة تُجدي معهم نفعا. لا شك في أن الحياة تذيقنا أصناف الابتلاءات، فالمولى يختبرنا (أيكم أحسن عملا) فإما شاكرا أو كفورا، ليس العيب أن نقع فكلنا في لحظات نغدو أضعف من طفل فقد أباه وأضاع أمه في زحمة الحياة ودهاليز السنين، بل العيب أن نلتصق بالأرض حيث وقعنا، فنندب حظنا طويلا، ونظن يقينا ألا مبتلى إلا «نحن» والعالم أجمع سعيد، وأن مصيبتنا أم المصائب !! نعجب من التصاق البعض بالأرض حتى لو أقبلت عليه الدنيا ورفعته من دنيئته، نرى نفسه المتهالكة تعيده إلى نشأته الأولى، حيث النفس المحطمة التي ترى أن ليس لها الحق في أن تعلو كغيرها. تقول الأسطورة الهندية: إن شابا هنديا كان يعمل حارسا في بلاط أحد الأباطرة، وحدث أن تآمر بعض الضباط على الإمبراطور، واتفقوا على أن يداهموا القصر ليلا فيغتالوه، وفي ليلة التنفيذ تصدى لهم هذا الحارس ودافع عن الملك ببسالة، فأكرمه الملك برحلة لجزيرة كان يحلم بزيارتها، وبينما كان هذا الشاب يسير في الجزيرة، إذ عثر على مصباح قديم خرج منه «مارد» كان يشكو السجن في المصباح، فأراد أن يكافئ الشاب فقال له: تمن أربع أمنيات أحققها لك، فأجاب: أريد قصرا فخما، وعربة فارهة، وزوجة جميلة، قال المارد: بقيت لك أمنية رابعة، فقال الشاب: اجعلني حارسا للقصر! وهناك امرأة فيتنامية تُدعى (هيلجا) عاشت طفولة بائسة، حيث فقدت جميع أسرتها، وذاقت مرارة الجوع والحرمان من أبسط حقوقها الآدمية، وشاء المولى - عز وجل - أن تعمل في أحد المتاجر براتب بسيط جدا بالكاد تستطيع أن تشتري به طعاما يُسكت صوت جوعها، وبعد سنوات من الجهد والصبر والكد والضنى انتقلت من قائمة الفقراء إلى الأغنياء، ومن ثم الأثرياء، ومع ذلك عاشت في شح شديد على نفسها، وغلبت عليها حياة «الفقير المعدم» حتى أنها عندما كانت تذهب إلى أي مطعم لا تتردد في أن تملأ جيوبها ببواقي الخبز وقطع الحلوى الصغيرة. إذا بحثنا في مجتمعاتنا سنجد مثل (هيلجا) الكثير، ومثل الشاب الهندي أكثر وأكثر، ولعل واحدا سيقول: إن في سلوكهما من التواضع ما جعلهما لم يتكبرا على ماض عاشاه في صغرهما، والحقيقة أنك عندما تصحب ماضيك في ذهنك دائما فتترجمه إلى سلوك سلبي فهذا شيء، وأن تعيش حاضرك ومستقبلك بما أنعم الله عليك فهذا شيء آخر، والله - عز وجل - يحب أن يرى أثر نعمته على عباده. هكذا أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام، لعل (هيلجا) تشعر بشيء من الأمان عندما تجد القليل من الخبز في جيبها، فصورتها الذهنية عن فقرها المدقع تراودها بين الحين والآخر فتشعر بالخوف والقلق. ولعل الشاب الهندي وجد نفسه مطمئنا قانعا مستكينا في قمقم الحراسة فلم يشأ أن يخرج منه، إنها قناعات راسخة عند البعض منا دون أن نفرق بين ما هو مناسب للظرف والمكان والزمان وما هو غير مناسب لهذا الثلاثي! ما أصعب أن نمارس (الصلابة الفكرية) على حد تعبير علماء النفس فيمن لا يفكر في التغيير وفي التكيف مع اللحظة بما يناسبها. وقفة تأمل: يقول المثل الاسكتلندي: (كن سعيدا ما دمت حيا) ويقول «جون كوتر»: إن السواد الأعظم من الناس لا يسيطرون على حياتهم، بل يرضون بها «! أما د. خالد المنيف فيقول: لا ترهن حياتك على واقع تستطيع تغييره، تذكر» فقط الموتى هم الذين لا يتغيرون».