حسنٌ أن ليبيا تتحرر من حكم «الجاهلية العظمى» بالقطعة، وإلا فلا يمكن تخيل ما يحدثه التحرير دفعة واحدة من فوضى عارمة، فليبيا بلاد كبيرة، وهذا قد يُصعب وضع كل شيء في مكانه الجديد بيسر وبلا أخطاء أو خسائر. قطعاً لم يكن ذلك بتدبيرنا، إنما بتدبير إلهنا، الذي جعل المدن سابقة ولاحقة في التحرر، علّنا نجتنب تكرار الأخطاء. واللافت في ثورتنا أن النظام السابق مازال طليقاً حتى الآن في بعض الأرجاء من بلادنا، والإنسان لدينا نصفه مقاتل ونصفه ينتظر القتال، وذلك ما يضعنا في مسؤوليات أكبر تمتحن مدى قدرتنا على الاستقرار السريع. ككل البلاد التي تغير فيها كل شيء فجأة، تحصل حوادث يجب ألاّ تحصل في طريق انتقالها من الاستبداد إلى الديموقراطية، لو أننا كنا نتفرج عليها في مسلسل أو نقرأها في كتاب، لكنها تحدث بحكم أن الواقع يشارك في صنعه أناس كثر تتعدد أفكارهم وتختلف مشاربهم. وقد سبق لتلك الحوادث أن رافقت الثورات التقليدية، وها هي ترافق الثورات الربيعية والخريفية، ولعل المثل الليبي أصاب وصف التحول بجعل الزمن الذي يتطلبه أي استقرار مفتوحاً، بحيث قال: «المحولة مذباله ولو كان عروقها في الماء»....هذا تماماً ما عشناه، فالخلاص من القذافي لم يكن مجرد حلم يعيش فينا من دون ثمن. نهب السلاح والذخيرة، الارتزاق في الحرب ببيع كل شيء ورفع أسعار كل شيء، تهريب الإغاثة الى البلاد المجاورة، تأليف الإشاعات والإشاعات المضادة، بيع سلاح التحرير للمدن التي تحتاجه، الإتجار في مواد الإغاثة والدواء والوقود وطعام الأطفال، تخفّي أعوان القذافي بين الوطنيين، تهريب المعتقلين مقابل المال، الإقبال على البطولات الإعلامية بلا واقع مطابق، مداهمة المباني العامة ونقل محتوياتها الى البيوت، عدا صورالقذافي بالطبع، بعض المنازل التي فيها عشر شاشات تلفزيون لا ترفض شاشةً حادية عشرة غنيمةً، بعض مقتنيات القذافي وأعوانه تباع في السوق السوداء، الاستيلاء على السيارات الحكومية ثم السيارات ثم السيارات، زينة الحياة الدنيا والآخرة لليبيين. ثم الذين يتسلقون لمناصب جديدة من دون أن يجيدوها كُثر كزبد البحر، لا تدري من أي فجاج الأرض يأتون، وما من أحد يريد مهمة أمنية تسارع في إرساء الأمن، لأنها تضع الحياة في خطر ولا أحد يريد المغامرة بحياته بعد أن زال القذافي بحياة سواه. ثم «خواجات» الفكر في الفضائيات، الذين ينتجون تحليلات عبقرية من قبيل أن عيون الصينيين هي سبب صغر حبات الأرز، يمسكون بمعايير جمهورية أفلاطون ويحاولون نسخها في كتاب الحياة الجديدة لليبيا، وأي فراشة تحوم حولهم وتهز المكبر من يدهم، لن يرحموها، فالكاتيوشا وال «آر بي جي» أسفل طاولة التحليلات، بينهم وبينها فقط كتاب الجمهورية الفاضلة، وما يبقيهم في حالتهم العبقرية المسالمة أو يخرجهم منها، مربوط... مربوط... مربوط بمرور فراشة أو عدم مرورها. وآخرون في مقابلهم، الدينُ على طاولتهم، وآخرون على طاولتهم جرير، وآخرون الفرزدق، وآخرون الديموقراطية، وآخرون مرجان أحمد مرجان... وغيرهم مثلهم ينتظرون فقط مرور ما يمر. أحداث متلاحقة هذا ملخص حالتنا العقلية، فما المتوقع من شعب سُجن 42 عاماً وتحولت أول بروفة في حياته على التظاهر إلى ثورة حقيقية، ثم وهو في قلب حقيقة لا يكاد يصدقها، وجد نفسه مضطراً لتسليحها... هل سيتوقف ويعود فوراً الى كهفه القديم كي لا تتحول الثورة إلى حرب ويستمر في مزاولة خوفه؟ أم سيسير إلى النهاية مهما كانت الخسائر، وهل ثمة حقاً ما يستحق العودة إلى وراء كان يخسر فيه كل شيء من دون أن يهم بفعل شيء. سوف تتلاحق الأحداث به، ولن يسمع للمناطقة والمتريثين والمتخوفين من الفراغ السياسي، سيقول لهم ألف فراغ ولا قذافي واحد 42 سنة أخرى، ببساطة لأنهم لم يجربوا آلامه مهما وصفها لهم، ولم يدمهم زجاج قدميه، ولم يعيشوا لوعته ويدخلوا مثله في غيبوبة تقترب من نصف قرن. يأتون في نهاية العام الثاني بعد الأربعين لبؤسه ويهنئونه على نجاحه في الخروج من الكهف، بتخويفه من الحياة من دون قذافي، وأن نهاية العالم ستكون في2011 إن لم يتعقل وليس كما سمع في 2012، يسحبون له جسد العراق المشوه ويضعونه أمامه كي يرجف ويخاف، فلا يرجف ولا يخاف، يكرون له أفغانستان الضريرة ويضعونه أمام الشباك الوحيد الذي تطل منه عيناها، فلا يراهما، يكلمونه عن مساوئ الثورة البرتقالية فيصاب بطرش الألوان. ذلك الغاضب غاضب ولن يتوقف إلا إذا بُتر رأس الشيطان، فأطفئوا مكبرات صوتكم، لن يجدي الإنسانَ الجائعَ وصفٌ ثلاثي الأبعاد لمذاق الخبز، فالكلام لا يشبع من جوع ولن يشبع من جوع، سيتوقف هذا المارد عن الاحتراق فقط ليضيء. أيها الناس... شيء من وقت ما بين نجاح المارد وتنظيم النجاح... أيها الناس، لكن الإنسان الذي جاء منه هؤلاء الناس خُلق عجولاً وخُلق كنوداً، سيتمادون في طلباتهم ويرفعون السقف كلما أوشكت حكومة لهم أن تبلغهم إياه. ورغم حريتهم الطازجة وإعادة ترتيب البيت الليبي من دون صوت للقذافي فيه أو صورة، سيجدون وقتاً للمطالبة بكل شيء دفعة واحدة، تغيير عضو ما من أعضاء مجلس بلديتهم أو حكومتهم أو زقاقهم، وحين تتأخر الإجابة عنهم يومين، وقد كانت في الماضي لا تستطيع أن تأتي، سيذهبون للتحاور مع المسؤول الذي لم يغير المسؤول وبمعيتهم السلاح، وفي الذهاب الثالث سيستقبلهم سلاحه، لأن السكرتيرة فرت مع أهلها الى تونس، وبينما هم يزيحونه بإحسان وهو يصدهم بمعروف، ستتحاور البنادق، فالإنسان الليبي مهيأ لتسكير الرأس وتاريخه مليء بالأقفال، ستغضب بندقية أحدهم وتطلق رصاصة لتخويفه أو تخويفهم، و من دون أن يفهم أحد الطرفين ما الذي يدور برأس الرصاصة بنت الكلب، ولأي فريق تميل، ستصيب الرصاصة التي لم تعد طائشة، رأس مواطن طائشٍ يمر قرب حوار لا علاقة له به، ومن علاماته المميزة أنه - رحمه الله – كان يحمل خبزاً أو يتحرى غنيمة أو يتلقط إشاعة أو يستهويه الخروج وتجربة الحرية. ستذهب الحادثة للنسيان، فتلك حالة فردية مع أنها تتكرر، وسيتغير المسؤول بما أنه لا يمكن إعادة الرصاصة إلى البندقية بعد إطلاقها، ولا منع فضول المواطنين من التجول ومن أن يكون طائشاً في استطلاعاته، أكثر من رصاصة في محضر صُلح. بعد أيام سيعاود الناس احتجاجهم... ليس للسبب الأول نفسه، فطلبهم أجيب واستبدل المسؤول، سيعودون لسبب ما يجدونه دائماً من دون أن يبحثوا عنه، الشعب يريد استبعاد المسؤول الفلاني لأن «شفشوته» تذكرنا بجلادنا العظيم وتجعل يومنا نحساً، إنه نو... الشعب يريد الشعب يريد استبدال فلان، لكنه كفء، قلبه خالٍ من الرياء ويده بريئة من دمكم ويده الأخرى لم تكتب تقريراً فيكم وجيوبه نزيهة من مالكم ولسانه لم يش بكم ورِجله لم تَسْعَ في سوء يطاولكم وأذنه لم تتنصت عليكم و(....) لم يعبث بعرضكم ومرارته انفجرت مرتين من أجلكم. إذا الشعب يريد تغيير عينيه... يحدث ذلك في البلاد العربية التي ثارت، أو التي ُثوِّرت، والحكومات الانتقالية لا يمكنها إحلال الاستقرار في ساحات الفوضى بأمان وسرعة وهدوء وكأنها ضربة حظ، ومهما خططت لذلك ودبرت واحتاطت، سيتجاوز خططَها لإحلال الاستقرار ذلك النوعُ البشري المصممةُ مُضْغَتُه لاختراق أي ترتيب، بعفوية تصرفاته أو قصديتها، فعلى امتداد الوطن العربي العزيز لطالما نُحت على الجدران هنا وهناك (ممنوع رمي القمامة/ حافظ على نظافة مدينتك) وكان ثمة من يرمي القمامة عند موضع العبارات بانتظام وحماسة جيلاً بعد جيل، من دون التوصل الى معرفة مِن أي صلصال مهين هو، ولماذا يفعل ولمَ لا يتعبُ فيتوقفَ، أو يتغيرُ فيكفَّ؟ ستجد عدد الذين كتبوا تلك العبارات أقل بكثير من عدد الذين يضعون القمامة عندها، حتى أن عملية اعتقال من يكتب هي أيسر بكثير من عملية اعتقال من يرمي لو أردنا أن نعرف. ما العمل؟ إما أن يتغير الإنسان ويُجيد نمط المواطن الصالح كما أجاد دور المقاتل الثائر وتنقرض منه مظاهر التخلف ويتعلم ممارسة الضبط الذاتي على سلوكه، وإما أن ينتظر أن يُغير بقوة الضوابط القانونية للدولة الجديدة أو تستسلم الحكومة لمحاصرة سلوكه غير المرغوب فيه بحزمة من الإجراءات الناعمة، من تلك التي استخدمتها بعض الأمم بصورة مبدئية، كأن تمنح الدولة جائزة لكل مواطن يتبرع لها بقمامته... وهكذا دواليك. إذاً... لماذا يثور المواطن العربي أساساً على حاكم رفض تغيير سلوكه السيئ تجاه مواطنيه لعقود طويلة، بينما المواطن ذاته لا يريد أن يلحق به أي تغيير أو تعديل في سلوكه، بل إنه يمشي ملكاً معتقداً بجزم وحزم أن تغيير نمط العيش هو مسؤولية حكومته الانتقالية وحدها أو حكومته المنتخبة، وأن كل ما عليه عمله هو أن يُشعل ثورة؟ ستنتهي الثورات حتماً، فالثورة ليست عملاً يومياً يذهب إليه الشعب ويعود في المساء إلى البيت كي يتناول الطعام ويجلس مع الأهل ويشاهد التلفزيون. ستكون هناك حياة بعد كل ثورة، بعد أن تفرغ الساحة من حاكم مستبد هو السبب في كل شيء سيئ، وتمتلئ بشعب ليس السبب في أي شيء عدا الثورات المباركة (وكأن الشعوب لا تشارك في صُنع جلاديها!) بلدان بمستوى الطموح وعلى قدر الحلم... لمعرفة الإجابة انظروا الى البلاد العربية الأخرى متى يتوقف الناس فيها عن الخروج الى الشوارع والاعتصام في الميادين. وانتظروا الجواب من ليبيا بعد أن تتحرر جميع مدائننا، ويودّع آخر إنسان لدينا الكهف.