«الموصل» على مائدة «اللئام»، مشدوهة لا تدرك أيهم أقوم قيلا، ولا أقل غدرا، ترى خناجرهم - على اختلافها - وقد شحذت، ففي أحشائها «رايات سود»، وعند أطرافها «نبت شيطاني»، وبين الاثنتين مدينة «وصل» و«وجد»، وحضارة غائرة في إنسانيتها حتى ذاك «العصر الحجري» الذي شهد ميلاد أول مستوطنة بشرية فيها. الطريق إلى «الموصل» يمر من «الفلوجة» هكذا زعم قراصنة العراق الجدد، ف «تحرير المدينة» - في فقههم - يستوجب إركاعها، وتناسوا أنهم سلموا مفاتيحها إلى «تنظيم داعش» وفروا خارجها دون قتال، في خطوة أثارت قائمة طويلة من الشكوك حول حقيقة الأمر. مدينة الموصل - التي تعتبر مركزا لمحافظة نينوى بشمال العراق - تترقب مصيرا أقرب إلى ما حل بشقيقتها «الفلوجة» التي شهدت «جرائم طائفية» يندى لها الجبين، بذريعة القضاء على «تنظيم داعش»، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع. في تسلسل الأحداث ما يستدعي التوقف، إذ كشفت لجنة برلمانية عراقية (شُكلت بهدف «الكشف عن ملابسات سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم داعش») النقاب عن تورط الحكومة العراقية في تسهيل احتلال التنظيم الارهابي المدينة. فبعد إعلان محافظ نينوى آنذاك أثيل النجيفي، في 5 يونيو 2014، عن عدم وجود مسلحين في الموصل ولا على أطرافها، استطاع التنظيم خلال 5 أيام فقط (10 يونيو 2014) السيطرة الكاملة على المدينة. بيانات الحكومة العراقية - التي كان يترأسها نوري المالكي - تحدثت عن مواجهات كبرى مع التنظيم، فيما الوقائع الميدانية كشفت ان عشرات العربات رباعية الدفع، التي أقلت عناصر التنظيم الإرهابي إلى الموصل، استطاعت السيطرة على المدينة، التي فرت منها القوات الحكومية مخلفة وراءها كل أسلحتها، وهو ما شكل علامة استفهام كبرى حول إذا ما كانت حكومة المالكي ومن خلفها إيران على صلة بأجندة التنظيم الإرهابي. بسقوط الموصل ومحافظة نينوى في يد «تنظيم داعش»، سارع المالكي إلى اتهام السلطات الإدارية المحلية ب «تسهيل دخول المسلحين» و«الخيانة»، إلا أن النجيفي رد عليه بالقول: إن انهيار قوات الأمن والجيش «الكبير والسريع» في مدينة الموصل، يوحي ب «تقصير مقصود وليس عفويا». احتلال «تنظيم داعش» الموصل، وما أعقبه من اتهامات متبادلة بين المالكي والنجيفي، فتح مجالا واسعا للبحث في مدى مسؤولية كل منهما، لتظهر التحقيقات أن «المالكي سحب الصلاحيات الأمنية والعسكرية من كل المحافظين، ومنحها فقط لغرفة قيادة عمليات نينوى، التي تتحكم في قوى الجيش والأمن، مخالفا بهذا القانون العراقي المعمول به»، ما يعني أن المدينة «سلمت تسليما». الأمر لم يتوقف هنا، بل تطور - بعد أيام من سقوط المدينة - بوصول زعيم «تنظيم داعش» أبو بكر البغدادي، في موكب من مركبات الدفع الرباعي إلى الموصل، ليلقي «مطمئنا وآمنا» خطابه الشهير في جامع الموصل الكبير!. المشهد بدا سرياليا، ويمكن تخيله ب «طريقة هوليودية»، فموكب البغدادي وصل إلى «أرض الوصل والوجد» أمام كل زعامات العراق والعالم، ودون أن يعترضه أحد، ليتوج - في 29 يونيو 2014 - خليفة للمسلمين، بعد إعلان الناطق الرسمي باسم الدولة أبو محمد العدناني إلغاء اسمي العراق والشام، وقيام «دولة الخلافة الإسلامية». «الموصل» مدينة ذات دلالة تاريخية، فهي شاهدة على عدة حضارات خلت، ابتداء من الاستيطان البشري في العصر الحجري (6000 ق.م.)، ومرورا بالعهدين الآشوري والإخميني وغيرهما، ومن ثم الإسلامي، ووصولا إلى الدولة الوطنية في أعقاب خضوع المنطقة لتقسيمات سايكس - بيكو الشهيرة، إلا أنها - طوال هذه القرون - لم تخضع دون قتال، إلا في ظل «السيناريو»الهوليودي». قبل سقوط الموصل، اعتقد تنظيم البغدادي أن الطريق إلى الموصل يمر عبر الفلوجة، وهو ما دفعه إلى السيطرة على الفلوجة أولا، في 2 يناير 2014، بعد سيطرته على الرقة ودير الزور السوريتين. بيد أن سيطرة التنظيم على مختلف مناطقه تمت دون أي اشتباك يذكر مع القوات الحكومية، وعلى طريقة التسليم دون قتال، خاصة أن الحديث يدور عن تنظيم مجمل تجهيزاته العسكرية غنمها من خصومه. والمقاربة الأكثر عجبا، أن «دولة الخلافة» المزعومة استطاعت الصمود أمام قوى كبرى، إذ عجزت دول كالولاياتالمتحدة - رغم كل ما تملكه من تطور عسكري واستخباراتي - عن قسم ظهر «تنظيم داعش» وفي خضم القصف الجوي لطائرات «التحالف الدولي» استطاع التنظيم التمدد في محافظات عراقية جديدة، حتى باتت دولته تتجاوز في مساحتها مساحة دولة كبريطانيا. الأدبيات العسكرية، بمختلف مشاربها، تتمسك بحقيقة إخفاق القصف الجوي في تحقيق انتصار دون وجود قوات برية تنتشر على الأرض، ورغم ذلك تجنبت القوات الحكومية العراقية نشر جنودها في الميدان، فيما كانت تعمل على انضاج ما يسمى «الحشد الشيعي» الذي ألحقته بالقوات الحكومية ك «ميليشيا طائفية» وأوكلت إليه عدة مهام، كان من بينها، العمل ميدانيا إلى جانب القصف الجوي لمناطق داعش. تتكئ السلطات العراقية ومنتسبو «الحشد الشيعي» إلى فتوى «الجهاد الكفائي» التي أصدرها السيستانى، فيما تجد جرائمها وما اقترفت من فظائع ضد السنة «مبرارات كهنوتية» تقدمها كأعمال بطولة. في عملية استعادة الفلوجة، أعملت القوات الحكومية، وحلفاؤها من ميليشيات «الحشد الشيعي» الدمار والقتل في المدينة وأهلها، وكشفت الصرخات المدوية - التي أطلقها أهلها - عن حجم «الجريمة الطائفية» المقترفة، ورغم فلاحها شكليا في القضاء على البنية الأساسية ل»تنظيم داعش«، إلا أنها عجزت عن استئصاله، أو استئصال أسبابه، وبالعكس من ذلك أرست قواعد متينة لبروز عشرات التنظيمات الشبيهة. «تنظيم داعش» اقترف قائمة لا منتهية من الجرائم، وهذا مدان في كل العقائد والأيديولوجيات، بيد أن «الحشد الشيعي» ارتكب فظائع لا تقل إجراما، ورغم كل الشهادات القادمة من الفلوجة، التي وثقتها العديد من وسائل الإعلام من أهل المدينة، إلا أن أحدا من الأطراف الفاعلة لم يوجه إدانة صريحة، باستثناء تصريحات مقتضبة وخجولة هنا وهناك. «النصر المزعوم» في الفلوجة (يونيو 2016) كرس، عن سبق إصرار، ميليشيات «الحشد الشيعي» باعتبارها «صانعة النصر» رغم ما ثبت بالوجه القطعي من جرائم طائفية اقترفت صد سكان المدينة، الذين ينتمي جلهم إلى «المذهب السني» معيدة إلى الأذهان عمليات «القتل على الهوية» التي اجتاحت العراق عقب انهيار نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. الحكم الناشئ من توه في العراق، بعد الاحتلال الامريكي عام 2003، زعم «وطنيته» التي تتسع لمختلف المكونات العراقية، لكنه اسند زعمه بادعاء «المظلومية التاريخية» التي خضع لها «الشيعة» في البلاد، وهي «الباطل الذي أريد به باطل» ليسفر - تاليا - عن «نظام حكم طائفي» خاضع لإرادة مركز الكراهية في الإقليم، ممثلا في إيران. ما شهدته الفلوجة يشكل صورة مصغرة لما ينتظر الموصل، وهو ما يدركه مختلف الأطراف، إقليميا ودوليا، بيد أن أحدا منها لا يحرك ساكنا، باستثناء حالات فردية، فيما الأصوات السنية عراقية، التي تتعالى، تظل مخنوقة وخاضعة لعدة اعتبارات، أهمها: أولا: الوزن الاعتباري ل «سنة العراق» في مجمل مؤسسات النظام السياسي، وهو وزن لا يقيم لهم سلطة حقيقية وقادرة على تغيير مسار القرار السياسي والأمني في البلاد. ثانيا: إخفاق وعجز «الأصوات السنية» العراقية عن مجابهة «الماكينة الشيعية» المدعومة إيرانيا، في تظهير حقيقة «الشراكة العميقة» المباشرة أو غير المباشرة، بين «تنظيم داعش» و «أذرع الكهنوت الإيراني». ثالثا: نجاح النظام العراقي في الصاق تهمة الإرهاب ب «السنة» دون غيرهم، وما يترتب عليه من خشية «المكون السني» من الظهور بمثابة المدافع عن التنظيمات الإرهابية، خاصة مع تنامي الحديث بشأن الحواضن الاجتماعية ل «تنظيم داعش» في مناطق نفوذه. رموز «الطائفية» في العراق يقاتلون لأجل مشاركة «الحشد الشيعي» في معركة الموصل، فيما لا يتوانون عن وصف المطالبات باستبعاد الميليشيا الطائفية ب «المؤامرة» وهو ما قاله نوري المالكي صراحة، فيما يسندون موقفهم بما يعتبرونه «تجربة رائدة» في «تحرير الفلوجة». ولكن، الإصرار على تسليح وتنظيم ومشاركة «الحشد الشيعي» في مواجهة داعش يقابله إنكار حكومي وإقليمي، لمطالبات أهل الموصل بتسليح العشائر العربية - السنية، من أجل المشاركة في دحر التنظيم، ما يكشف الإصرار على «تطويف المعركة» وهو ما أكده شيخ قبائل طي لكاتب هذه السطور في وقت سابق. مجمل المشهد المرتبط ب «تنظيم داعش» يؤكد حقيقة وجهة السلطات العراقية، ومن خلفها إيران، في تعزيز «الطابع الطائفي» في مواجهة محالات «البناء الوطني» وبما يجعل العراق برمته رهينة ل «الحشد الشيعي» فيما بات «الإرهاب في المناطق العراقية السنية» العبارة الأكثر لوكا على ألسنة المسؤولين العراقيين وغيرهم. الولاياتالمتحدة - التي تبدي هوسها في هزيمة «تنظيم داعش» وتشارك في الإعداد لمعركة الموصل عبر 5 آلاف عسكري أمريكي متواجدين الآن في شمال العراق - لا تلقي بالا لمستقبل هذه المناطق، وهذا ما يسمح لإيران بملء الفراغ كاملا بأجندتها التوسعية. المقاربة في العراق أشبه ما تكون بالحالة اللبنانية، التي أسفرت أخيرا عن اختطاف «حزب الشيطان» (حزب الله اللبناني) الدولة بمن فيها، ووضعها رهينة في يد عناصره، ضمن صيرورات تصب كلها في سبيل تمكين «الهلال الشيعي الشمالي» من «تطويف» و «تطويق» المشرق العربي. ولا يغيب عن المراقب الظهور الفظ لقائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثورى الإيرانى قاسم سليمانى، وهو ما يحمل دلالة عميقة على نوايا إيران نحو السيطرة على أوصال العراق عموما، وعلى المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية (النفط) القريبة من الموصل، بينما شكل وصوله إلى حدود نينوى إعلانا رسميا باخضاع القوات الحكومية العراقية لهيمنة «الحشد الشيعي»، الذي لا شك في أنه الذراع المسلحة الأكثر ولاء لإيران في العراق. وبالتزامن، ظهر مقاتلون ل «حزب الشيطان اللبناني» في معسكر لعناصر الحشد في السليمانية، التابعة لكردستان العراق، وهو ما يؤشر الى أمرين، الأول: تشييع معركة الموصل، وهو ما يدفع إلى استقراء نتائجها من معركة الفلوجة. ثانيا: تورط إقليم كردستان العراق في مخطط تطويف العراق والانقضاض على المكون السني. «الموصل» مدينة متعددة ومتنوعة، وظلت على مدى تاريخها قادرة على استيعاب مكونها الإنساني، وصهره في بوتقة عابرة لحدود الاعراق والطوائف، لكن إصرار المكون الشيعي العراقي، تحديدا الشق الطائفي منه، على تدخل «الحشد الشيعي» في عملية «التحرير» يثير شكوكا حول مآلات العملية المرتقبة، خاصة في ظل «حجب تنظيم داعش لخدمات الاتصال والانترنت عن كافة أرجاء المدينة منذ بداية أغسطس الحالي» ما يعني أن جريمة كبرى سترتكب دون أن تسجل فظائعها. يشي إصرار الرموز الطائفية في النظام العراقي الى مشاركة الحشد في معركة الموصل بحقيقة ما يجرى فى العراق، الذي يمكن اختصاره في «عملية إخضاع منظم» لمختلف أرجاء ذلك البلد لإيران، ويستهدف تمكين «دولة المركز الطائفي» من الموصل، وتكريس الصراع المذهبي كعنوان مستقبلي للعراق. «الحشد الشيعي» يعتبر المعادل الموضوعي والوجه الآخر ل «تنظيم داعش»، ففى كل مكان يغادره التنظيم الارهابي يصار إلى تعبئته بهذه الميليشيات المنفلتة من أية ضوابط، فيما يصار إلى استثناء القوات الرسمية، إلا من بعض مظاهر الوجود الشكلية.. فاليوم، الموصل على مائدة اللئام.