كيف يستبسل أي منا من أجل قضية ثم يناقضها هو في أولوياتها ومبادئها؟ وكيف يدافع كل منا عن الإسلام ثم ينطلق لعناً وشتماً وسباً، وقد ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا بِاللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ». وكلنا يعلم أن التجاوز باللفظ ليس من وسائل الحوار ولا يمت له بصلة. أقول هذا مستغرباً؛ فلا أحد يجادل في أن الشتم والسب واللعن من الأمور المستهجة ومع ذلك فممارستها شائعة، وهنا يكمن التناقض! ويبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت تغترف لنا من قدور قميئة كشفت -للأسف- أنواعاً وألواناً من الفحش في القول وتقاذف بالشتائم وتبادل الاتهامات ليحط كل من قدر الآخر ويلصق به عيوباً ومثالب. ويبدو اننا أمام أمر لابد من حسمه، وهو أن تعارض وجهات النظر وحتى تناقضها لا يستوجب اللعن والشتم والسب؛ فكل عاقل يدرك أن حجته لن تصبح أكثر إقناعاً إن كان شتاماً. وهناك أشخاص حريصون على ممارسة كل خير لكن لا سلطة لهم على ألسنتهم فتوردهم الموارد السيئة من الخوض في خصوصيات الناس وأعراضهم وشرفهم بل حتى سبهم ولعنهم لعناً قراحاً، وليس ذلك من سمات العقل والعدل. وقد يدعي أي منا حرصه على الخلق القويم وأنه أنبت أبناءه على صيانة ألسنتهم وأفعالهم، وعند الممارسة قد تجد أن جُلّ ما ادعاه كان مجرد عبارات تُلاك، خذ مثلاً شخصا يحرص أن يصلي في المسجد ثم ما أن يخرج حتى «يفحط» بسيارته مثيراً الغبار على من كان يصلي معهم! أو حتى أن «يتجاكر» معهم عند الاشارات والمنعطفات. وليس من أسباب تقوية الحجة الكذب والتدليس والتلفيق، فالله سبحانه لعن الكاذبين( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران 61). هناك من يكذب، ومن يتهم الآخرين بالكذب، ومن يكذب على الناس بتقويلهم ما لم يقولوه أو يلوي أعناق كلماتهم لوياً ليثبت أمراً أو ينفيه، وفي هذا ظلم هائل.. ويبدو أن هناك من يناقض فعله قوله؛ فهو يُنكر مقولة ميكافللي بأن الغاية تبرر الوسيلة لكنه لا يتورع أن يمارسها عندما تحقق له مصلحة. وبالتأكيد للبشر طبائع تتفاوت وسلوكيات تختلف، والمطلوب هو حوار اللسان النظيف والعقل الرصين ليصبح حوارنا «فوق الحزام»، ولعل مركز الحوار الوطني يخرج ميثاقاً وطنياً لأخلاقيات الحوار والجدال والنقاش يبعدنا عن الشتم والسب واللعن والكذب والتكذيب والتقول. وهناك من ينهي رمضان ويبدأ أيام العيد بعبارات التآلف والصحبة الطيبة، وهناك من يفطر على البذئ من القول، وأظن أننا بحاجة فعلاً لشرطة تفرض على الجميع احترام الجميع، ولا أقول هذا امتعاضاً من أحدٍ بعينه، بل من مستوى الاسفاف في الحوار بل وفي التحريض واستثارة النعرات أياً تكن تلك النعرات، فهي في نهاية المطاف للتجزئة والتفتيت والتنافر! صيانة المجتمع مع هذه الآفات لن تتحقق إلا بردع، والردع هو بتغريم من يتجاوز، كل من يتجاوز، من يتجاوز على كرامة البلد ككل بأن يؤذي الوحدة الوطنية. تحدث المتحدثون عن هذا الأمر كثيراً وطويلاً، وحان الوقت لتحرير مخالفات، ولوضع نظام شبيه بنظام المرور الذي يُنظم السَير ويمنع التجاوز وتعريض حياة الآخرين للخطر، كذلك «السير» في وسائل التواصل الاجتماعي وفي المنابر والندوات والمناسبات عموماً، فليس لأي أحدٍ أن يقول ما يراه وما «يُبرد قلبه» ويشفي غليله، ونحن نعرف أن استجلاب الكراهية يؤدي لمزيد من الكراهية والمزيد من الاستجلاب في دوامات لا تنتهي، ولن ينتصر فيها أحد، بل سيتلقفها الصغير من الكبير، والحفيد من الابن، لتبقى جذوة التناحر مستمرة ومستقرة! والأمر هنا ليس مع أحد ضد أحد، بل مع كرامة الوطن والحفاظ على حياضه ووحدته، في أوقات الشدة والرخاء، وفي الحرب كما في السلم. أدرك أن ثمة وجهة نظر ترى أنها هي الأكثر حرصاً وخوفاً وشغفاً، وأقول -وأبدأ بنفسي- ان اثبات ذلك ليس بالقول بل بالعمل، فأكثرنا خوفاً من إلحاق إيذاء بالوطن -مهما كان هامشياً وصغيراً- هو من يتجنب تزكية ذاته على حساب الآخرين، وهو من يُدرك أن وطننا سياجٌ حامٍ لأهله؛ فلا يتجاوز أحدنا على مواطنيه لا بالقول ولا بالفعل. ليس فيما أقول أي مثالية، بل فيه واقعية مُغرقة مما نتداوله في مجتمعنا في مقولاتنا الرائجة، وتختصره برشاقة لغوية بليغة مقولة «اللي هذا أوله ينعاف تاليه»! بمعنى أننا جميعاً ندرك منزلقات التنابز وإيغار الصدور والحط من قدر الآخرين، فإن سمحنا لأحدٍ بأن يسلك هذا الدرب المظلم، فلن تكون الثمرة إلا أذى وظُلمة، حريٌ بنا تجنبها.