لا تثق في شيء في الحياة بطريقة مطلقة.. لا تثق في الناس ولا المعرفة ولا الحب ولا في قدراتك (بطريقة مفرطة) مهما بدت لك الأمور مطمئنة، العلم والمعرفة الإنسانية برمتها قائمة على أسئلة لا تركن إلى إجابة نهائية ومطلقة.. هذه ليست دعوة للتشكيك في الآخرين أو الحياة أو العلم أو الحب، لكن التطرف في الثقة أمر كارثي.. كن متطرفا وواثقا إلى درجة العمى في حالة واحدة فقط؛ إذا كنت تملك قدرة عالية على مواجهة الخيبة والخذلان الذي قد يطالك من وراء ثقتك.. وأنا لا أعتقد أن بشرا طبيعيا قادر على تحمل خيبة الخذلان للثقة المتطرفة.. فبعض الذين خذلوا في الأمانات الكبيرة ماتوا قهرا، وآخرون قضوا حياتهم حزنا فاقدين الثقة حتى في أنفسهم.. هناك من استأمن عزيزا على ماله فسرقه، وهناك من استأمن حبيبا على قلبه فأدماه، وهناك من استأمن صديقا على سره ففضحه، وهناك من استأمن ولده على بره في الكبر فعقه. مساحة الأمان الوحيدة في الثقة هي المنتصف فلا التخوين المطلق مقبول ولا الثقة النهائية مأمونة.. اعط الثقة بالمقدار الذي يخول لك تقبل خذلانها بمعنى ان تعطيها في الأمور اليسيرة ولا تفكر لوهلة في اعطائها بصفة مطلقة في الأمور الكبيرة، لا تفعل ذلك إلا إن كنت أمام خيار واحد لا تملك حيلة فيه.. كن مسلحا في الحياة بالاستغناء دائما عن كل ما يجعلك معتمدا على الآخرين بطريقة مفرطة، في سعادتك في عملك في تجارتك في تفكيرك في ملذاتك في استقرارك في معظم شؤون حياتك.. لا تثق إلا في نفسك وامكاناتك وحتى في نفسك لا تتطرف في الثقة.. جل خيبات البشر الاجتماعية والاقتصادية والعاطفية سببها التطرف في الثقة، بل حتى الخيبات السياسية كان مصدرها الثقة سواء بين الشعوب وحكامها أو بين الدول واعتمادها على تحالفات خذلتها وقت الأزمات. الوقوف في منتصف الثقة يعني ايضا ان تكون مهيكلا لخطة طوارئ في ازماتك الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعاطفية والصحية، ان تضع استراتيجية تكفل رعايتك بطريقة لائقة وقت ان يتخلى الجميع عنك.. هذا الكلام ليس لأولئك المخذولين؛ المطعونين في قلوبهم أو عافيتهم أو صداقاتهم أو أقاربهم، فهؤلاء ذاقوا مرارة الخذلان بقدر ما قدموه من ثقة ووحدهم يعرفون تماما الطعم الحقيقي لمرارة الخيبة والخذلان بالقدر الذي يجنبهم إعادة السقوط في فخ الثقة المطلقة مرة أخرى. التحذير مما سبق موجه لأولئك الذين لم يعيشوا خيبات كبيرة وخذلان مرير أو لأولئك الذين مروا بتجارب خيبات صغيرة وما زالت الحياة تغرهم وتستدرجهم لخيبات مميتة.. أخيرا من وثق بالصحة خذله المرض ومن وثق بالسلام خذلته الحرب ومن وثق بالحب خذله الوجع ومن وثق بالحياة خذله الموت.