1 بدا لي الشاعر الكبير أدونيس في حواره مع جريدة الحياة ، وفي موضوعة الحب بالذات ، رجلا صالحا ، ورعا، وربما فقيهاً. يتحدث عن نعمة أن يكون الرجل مرتاحا ، واساس هذه الراحة: "ان تكون المرأة تحبك بكل ما في الكلمة من معنى من أبعاد ودلالات، لا تتفتح طاقات الرجل إلا مع امرأة تحبه بجميع طاقاتها" . آه ، الشاعر لا يفوت فرصة إلا ويشير : "تمنيت كثيرا أن أقع في مثل هذه الهاوية، ولكن لم يسعفني الحظ" وكان السؤال على هذه الاجابة هو : "هل أحببت امرأة لم تحبك ؟" . فيجيب بطريقة مطلقة : "أبداً" تماما ، الغرام أمر مضنٍ ليس بمقدور الجميع القيام به ، وبسبب هذا لا يتوقف البشر عن القيام بذاك الشغف المميت فلا يقدرون على الافلات منه ، أو الخروج عليه برمشة عين . وكما نلاحظ في بعض آراء الشاعر العربي ، ان المرأة عزيزة على قلبه ، على أن تبقى ذخيرته هو، حتى تحين اللحظة المناسبة فيقوم بإظهارها على الملأ ، لكنها الأجدر بالفخر طالما هي التي تقوم بفعل الغرام ، وبصيغة ضمير المتكلم علانية، وبلهجة فصيحة تحسب لها وليس العكس ، أما الشاعر فيفضل صيغة ضمير الغائب ، بالرأي المفخم ، الحتمي والذي يقول ؛ أبداً . لكن ان تحبك المرأة بجميع طاقاتها، هذا هو الإنجاز الوحيد الذي بمقدورها القيام به ، ويحتمل ، بالطبع الكثير من الاضافات والملاحق بحسب تقلب ذائقة وسن ومزاج الشاعر. 2 لم يخذله الحب يوما ، ولا خذلته امرأة . كان يخرج سالما ، فالشاعر كما يبدو ، يفضل دور المحبوب الاستثنائي ، الخارق للعادة ، فقط على أن لا يقطع المسافة بين الهيمان والاعتراف بالانخطاف بامرأة ، وبين التنظير المثالي لها ، وللغرام بالذات: "الحب مدار كوني" وكما يفسر هذا القول في صيغته الهندسية والفيزيائية ؛ ان يكون الرجل في موضع المعشوق وبلا مواربة ، وأظن أن شاعرا بقامة أدونيس قام بتفليّة الشعر العربي، المستودع المذهل للحب ، وللشعر الأجنبي الذي قام الشاعر وغيره من الشعراء العرب بالقيام بترجمة القصائد العظيمة لتجارب شعراء العالم في صنفيه المتماثلين ، النضالي والغرامي ، وعلى قدم المساواة ، فنكتشف أن كل مثابرة وضنى تحمّلها هذا الشاعر أو ذاك في العالم ، كانت بسبب القوة المطلقة التي يقولها ويعيشها الشاعر والفنان ذاته ، حين يحقق الهدف ، وبقفزة واحدة لا غير، وهي مسرة وبهجة قول الشاعر ، أي شاعر مجيد ، وعبر تأريخ البشرية كلها: أنا أحبك ، أنا المفتون ، أنا المخذول ، الخاضع ، المضطر ، المضطرب والمرتبك الخ الذي قد تتصاعد منه أبخرة الغفلة في بعض الأحيان ، فيقول عنها ، هذه بركة المغرم الحبيب ، وهي ذاتها هاوية المرأة والرجل سويا . أظن اليوم وأنا أستعيد بعض قراءات الشاعر الجميل محمود درويش، أن ما سوف يبقى من شعره ، هو هذا الاحتراق الجنوني بالعشق ، بخيبة الفقد والهجر ازاء المرأة والهيام بها ، فلسطين قيمتها الكبرى ، والنهائية في تراتبية درجات عشاقها الكبار ، وبالدرجة الأولى. أدونيس 3 ريلكه ، نيرودا ، ناظم حكمت ، رستوس وغيرهم بالعشرات ، كان امتيازهم الإنساني هو استسلامهم الحرفي لبلبلة الحب . قالوا الخيبة ، المفارقة ، الشك ، والقلق المهلك . ظلت قوة هؤلاء وغيرهم حالة طمأنينة للضعف الإنساني الذي يوصل الآخر / الشاعر / الفنان / إلى درجة الاحتضار . تصورت كلام وردود الشاعر أدونيس ، هي ردود رجل السياسة والنظام، أي نظام ، والتي تذكرنا برفض الفشل في الانتخابات مثلا ، واللاقبول بهاوية الخسارة . المحبوب هو الناجح ، وهذه سلطة فاتنة وقاتلة ، ان تظل ضمن دائرة السحر، وتتلألأ بالتفاخر والمجاهرة التي يحتاجها ويطالب بها صاحب السلطة ، وها هو الشاعر يعلنها إشارة لهذه الاستراتيجية: الذكر العربي الذي لا تهزمه امرأة ، طرزان ، ولا تتقطع أنفاسه بحب من طرف واحد ، فهذا أمر يدميه كشاعر ورجل خارج من المباراة الغرامية مهزوما . هذا التطيّر من الخذلان والفشل في أعقد وأعمق العلاقات البشرية التباسا ، وأعني به الحب ، هي ذاتها التي تطبع جميع علاقات مجتمعاتنا العربية ؛ التمتع النهائي بمنظر ووجاهة ؛ السلطان المحبوب ، الأبدي ، القائد الذي يفحص هندامه ولياقته ، مفرداته ، وعدته اللغوية ، وبالتالي فحص خشب كرسيه قبل ان يتحرك من فوقه. *** حين نقرأ عن حيوات الكتاب والشعراء الذين قتلوا أنفسهم من أجل الخضوع للمعاينة الوحيدة ؛ أن يكون عاشقا عاديا بسيطا ، محبطا وربما فاشلا ، لم لا ، ونسمع صوت انتحابه عبر القصائد ، فهذا لا يعكس انفصاما بين الكتابة وطريقة العيش والتفكير ، فالحب حين نكابده ، هو الحساب المفتوح لمواجهة الذات بكل الخسارات قبل الانتصارات ، وهو ذاته لحظات المرء / الشاعر/ أمام ورطة الدنيا والموت والكتابة.