«كل العقلاء كانوا، لعقود مضت، في وفاق مع ما كان يقوله السيد ويلز. لكن العقلاء لا يملكون سلطة». هذا ما يقوله جورج أورويل مؤلف (مزرعة الحيوان) عن تصورات ه.ج. ويلز مؤلف قصص الخيال العلمي في مقالاته التي تناولت الشأن السياسي، ومنها تصوراته عن "دولة العالم". وعبارة "لعقود مضت" تعني قبل أن تثبت الأيام أنها، وإن كانت أحلاما خيِّرة ومشروعة، إلا أن الواقع قد فرض منطقا آخر مغايرا. وقد عبر أورويل عن انهيار بعض الأحلام الكبيرة في روايته الشهيرة "مزرعة الحيوان"، فكانت كل الطرق، أو بعضها (مع التفاؤل) تؤدي إلى تلك المزرعة. لكن أورويل لا يخفي إعجابه بإبداعات ويلز الأدبية وكتاباته العلمية. أما اعتراضه فيتمحور حول تقليل ويلز من شأن القوى الفاعلة والمحركة لأحداث الواقع. قد تبدو تلك القوى متخلفة وهامشية وضحلة الثقافة، لكنها تملك زمام المبادرة والقدرة على التأثير. الأمثلة كثيرة، وفي حين يمجد المثقف العقل والتفكير النقدي يسحب التخلف البساط من تحت قدميه، وتعشش الخرافة في محيطه الصغير، ويمارسها أقرب الناس إليه. وفي حين يحقق العلم إنجازات مذهلة، نجد الفجوة واسعة بين ذلك التقدم العلمي وأنماط التفكير البدائية التي تتحكم في كثير من شؤون الحياة الاجتماعية. يرى أورويل أن الطاقة التي تشكّل العالم فعليا تنبع من عواطف "الكبرياء العِرقي، وتقديس القادة، وحب الحرب". وهي وجهة نظر تجد لها على أرض الواقع ما يعززها. وعند الحديث عن "الكبرياء العرقي" يمكن أن نضع تحت هذا العنوان مجموعة انتماءات وهويات إذا ما بعثت طلَّق الناس المنطق بالثلاث. وقد أشعلت تلك الهويات، وما زالت، صراعات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. أما "تقديس القادة" فشأن قديم وأمثلته كثيرة، ويمكن اختصارها جميعا في مقولة تصف الأحنف بن قيس بأنه رجل "إذا غضب يغضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب". وأمام هذه التبعية المطلقة لا يعود للسؤال ولا للمنطق أي معنى. وحديثا كان بعض مثقفي الغرب ينظرون إلى هتلر باعتباره "شبحا من الماضي"، لكن، ما زال الواقع يفرز أشباحا أخرى تتصدر المشهد، ولا تختفي إلا لتعود ثانية. وليس مستغربا أن يؤدي العاملان السابقان الكبرياء العِرقي، وتقديس الفرد، إلى احتمال تحقق العامل الثالث وهو "حب الحرب". بشَّر بعض مفكري القرن التاسع عشر بدولة عالمية، وما أن أوشكت الألفية الثانية على الانتهاء، حتى أطلَّت الانقسامات، والنَّزْعات الانفصالية، وازداد عدد الكيانات الصغيرة المؤسسة على الفرز العِرقي والديني. فكانت "دولة العالم" مجرد حلم من أحلام الفلاسفة. اتجه الواقع عكس نوايا وأحلام بعض النخب المثقفة. كما اتجه عكس أحلام بعض القادة كالاسكندر وجنكيزخان ونابليون في تحويل العالم إلى امبراطورية عظمى. أراد الفلاسفة المثاليون تحقيقها بالأفكار، وأراد القادة تحقيقها بالقوة. نعم، شهد عصرنا الحاضر تقاربا عالميا على المستوى المادي يتمثل في المظاهر الاستهلاكية المشتركة (الملابس، الوجبات السريعة، الأجهزة الذكية، وسائل النقل، بطاقات الائتمان، الخدمات الفندقية..)، لكن تلك المظاهر الاستهلاكية العابرة للقارات لم تصنع مواطناً عالميا. وقد وجد دائما من يرحب بالسلع المستوردة، ويرتجف خوفا من القيم المصاحبة لها. ختاما، يلاحظ الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه صاحب كتاب (مديح الحدود) في سياق معارضته للفكرة التي أشاعتها العولمة عن إلغاء الحدود أنَّ السلع وحدها (وليس البشر) هي التي تتمتع بحرية مطلقة في الانتقال من قارة إلى أخرى.