في سابقة تاريخية لا نظير لها تفتق ذهن لجنة الإعلام في مجلس الشورى، عن توصية تستهدف وضع معايير علمية دقيقة للمثقف السعودي ومناقشتها في المجلس، كي تتولى وزارة الثقافة والإعلام تنفيذها. ترى.. هل ثمة أشد غرابة وشذوذا من هذه التوصية؟ لا أظن؛ إذ كيف يمكن "معايرة" ما ليس قابلا للمعايرة وهو العقل والوجدان؟ فعلوم المنطق والفلسفة ومناهج البحث نفسها لم تزعم أو تجازف بالقول القاطع أن لديها معايير علمية دقيقة محددة صارمة لا تتجاوزها في التقييم المؤكد ذات اليمين أو ذات الشمال، إلا فيما هو تقني بحت، فكيف بالإمكان وضع معايير علمية دقيقة للمثقف وهو بحد ذاته مصطلح عصي على التعريف.. فهناك المثقف العام الذي يأخذ من كل علم بطرف، والمثقف الموسوعي، أو المثقف المختص بحقل من حقول العلم والمعرفة مثل السياسة، الاقتصاد الاجتماع الأنثروبولوجيا أو الفيزياء، الكيمياء والأحياء.. كذلك هناك المثقف العضوي بمفهوم جرامشي أو المثقف الملتزم بمفهوم سارتر، إلى جانب أن هناك من يقسم المثقفين إلى نخبويين وغير نخبويين.. ولعل هذا العسر في تعريف المثقف هو ما جعل المفكر رجيه دوبريه يقول إن المثقف مفهوم ملتبس، فالمثقف منتج ثقافة ومستهلك لها، كما أن الثقافة ليست مهنة، لكن يجري العمل من أجلها، فكيف طالما أن الأمر على هذا النحو يمكن أن يتصور عاقل أن بالإمكان وضع "معايير علمية دقيقة للمثقف؟ ولا سيما أنه يستحيل أصلا وضع معايير علمية للعقل الإنساني بشكل عام. إنني أثمن موقف عضو مجلس الشورى الذي قال إن الثقافة ظاهرة إنسانية لا يمكن تأطيرها وتحديدها، كما أثمن موقف العضو الآخر الذي حذر من تدخل وزارة الثقافة والإعلام في تحديد معايير للمثقف السعودي، ولفته الانتباه إلى أن ذلك يقود إلى تصنيف المثقفين.. لكنني، علاوة على ذلك، أحسب أن أحدا لا يكاد يصدق أن اللجنة الإعلامية في مجلس الشورى هي بالذات التي قدمت فعلا هذه التوصية لضبط عقل المثقف بالضبة والمفتاح. لقد أدانت أمريكا ومعها العالم فعلة السناتور الأمريكي جوزيف مكارثي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، في تصنيف المثقفين والفنانين الأمريكيين، الذي قاد بعضهم إلى الهرب والاختفاء، وبعضهم الآخر للمحاكم وللسجون بتهمة العمالة للاتحاد السوفياتي، كما أدان التاريخ موقف جويلز وزير دعاية هتلر في اشتباهه بالثقافة: "إنني أتحسس مسدسي كلما سمعت كلمة الثقافة، أما في الأدب فقد فضح جورج أورويل في رواية (1984) بشاعة الهيمنة على العقل الإنساني في الأنظمة الشمولية ممثلة برقابة الأخ الأكبر، كما فعل إسماعيل كدارية الشيء نفسه في رواية (قصر الأحلام)، وحين تأتي هذه المسابقة لوضع "المعايير" للمثقف (السعودي) فإنها مع الأسف تمثل من ناحية إساءة بالغة في حق المثقف السعودي بأن يكون هو بالذات المستثنى من المعايير دون سواه من عموم مواطنيه أو مثقفي العالم.. كما تمثل من ناحية ثانية مفارقة سوداء في أن تكون هذه التوصية صادرة عن لجنة يفترض أساسا أنها هي المرافع المنافح عن المثقف والثقافة.. لأن هذا هو مناط التشريف بالتكليف للعضوية.. لكن ذلك ومع الأسف أيضا لم يحدث، فقد سارت اللجنة عكس الاتجاه عبر هذه التوصية الصاعقة! نقلا عن الاقتصادية