لم يكن الكاتب البريطاني جورج أورويل «وليم شكسبير العصر»، كما لم يكن سيداً فطرياً للغة الإنكليزية، عبقريته كانت تكمن فقط في بساطته المطلقة. عانق «مرونة الكلمات» منذ لحظة الكتابة الأولى، ليخلق «عالماً خاصاً» به، كما أسرّ لأحد المقرّبين. أكثر ما يلفت في أورويل أن كتاباته عاشت حتى بعد مرور اكثر من ستين عاماً على وفاته، ليقدم خياله الكلاسيكي صورة مفصلة عن المستقبل السياسي والاجتماعي الذي عشناه بعد رحيله، ونعايشه راهناً. لم يكن أحد ليتخيل أن أورويل من مزرعته الإنكليزية الصغيرة في «هيرتفورد شاير» سيقدم كتاب «مزرعة الحيوان» الذي انتقد فيه الأنظمة الشمولية والثورات المنقوصة وحالة الخنوع والاستسلام التي يبديها المجتمع، أو حتى كتاب « 1984» الذي فجر ثورة في الأدب السياسي وتنبأ الكاتب من خلاله بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا تكترث لأحلامهم بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات «الاخ الأكبر» الذي يراقب حتى دبيب النمل. في كتابَي «مذكرات» و «جورج أورويل: حياة في رسائل» (الصادرين أخيراً عن دار هارفيل سيكر-لندن) من إعداد بيتر دافيسون، نجد توثيقاً كاملاً لكتابات أورويل، قصائده، رسائله، مذكراته، مقابلاته الإذاعية، وحتى ما ورد في دفتر ملاحظاته اليومية الصغير. وعلى الرغم من أن أورويل كان مريضاً في الفترة الأطول من حياته –توفي بمرض السل في عام 1950 في السادسة والاربعين من عمره-، شمل انتاجه الغزير أعمدة في الصحف، ومجموعة كبيرة من القصص والمقالات والمراجعات والروايات، وهي تظهر كلها في الاصدارين الجديدين. منذ نشرت «الأعمال الكاملة» لجورج أورويل بمجلداتها العشرين عام 1998، أصدر دافيسون سلسلة من الكتب الموجزة المستلّة من حياة أورويل، ومنها «يوميات أورويل»، «أورويل في السياسة» و «أورويل في إسبانيا». وها هو اليوم يضع بين يدي القارئ كتابين جديدين عن كاتبه المفضل. وعلى الأرجح أن أورويل كان سيكره كل هذا الضجيج الذي يثيره دافيسون من حوله، فهو طلب عدم نشر أي كتاب يتضمن سيرته الذاتية، حتى أنه أحبط محاولة أولى من صديق له في هذا السياق، لكن أمنيته لم تتحقق بعد وفاته. دفتر مذكرات «لرؤية ما هو أمام أنفك عليك أن تناضل باستمرار»، هذا ما لاحظه جورج أورويل في مقال له في عام 1946. لذلك، وللحفاظ على تركيزه، احتفظ صاحب «الحنين إلى كتالونيا» و «ابنة القسيس» بدفتر مذكرات يدون فيه كل ما يدور في يومياته، بدءاً من عدد البيض الذي تضعه دجاجاته يومياً، وصولاً إلى تسجيل ملاحظاته السياسية حول صعود الشيوعية في أوروبا، وتعاطفه معها بداية، ومن ثم انتقاده السليط للنظام الستاليني. وتغطي مذكراته، التي نقحها دافيسون أخيراً، الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية، وسفره الى المغرب ليتعافى من الاصابة التي تلقاها في الحرب الأهلية الإسبانية، وزيارته الى بورما حيث عائلة والدته الفرنسية الأصل. احتفظ أورويل بمذكرات مختلفة حول امور مختلفة. مذكراته العادية تبيِّن أنه كان بستانياً متحمساً جداً ومزارعاً نشطاً، فهو يسرد أدق التفاصيل عن حال الطقس، نوع المزروعات، حال الحيوانات في المزرعة... أما مذكراته السياسية، فتضم أفكاره اليومية منذ دخول أوروبا في الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أحداث رصدها بدقة. ولكن، كيف يمكن لمذكراته الشخصية حول «عاصفة غبار عنيفة» بعد ظهر يوم 9 تشرين الاول/ أكتوبر 1938، أو اللون الأرجواني للزيتون الناضج في السوق المغربية، ان تخبرنا عن الرجل الذي ترك وراءه عبارات مخيفة، كال «الاخ الاكبر» و «التفكير المزدوج» وغيرهما من المقولات التي لا تزال تتماهى مع اوقاتنا اليوم؟ تكشف اليوميات الشخصية بعض الجوانب المثيرة جداً للاهتمام والفضول، وتعرض امام القارئ شخصية هذا الكاتب المتعطش دوماً لرصد الوقائع ومتابعة كل ما يجري من حوله وطرح الاسئلة الكثيرة للوصول الى إجوبة مقنعة. هي في مكان ما، تجعلنا على صداقة او علاقة لطيفة مع الكاتب الغامض. إنكليزي أصيل لماذالا يزال أورويل دون سائر الكتّاب العظماء، يحظى بكل هذه الحفاوة؟ في الواقع، أثبت هذا الكاتب الإنكليزي انه استطاع قراءة المستقبل ببراعة، فنبوءاته انطبقت ولا تزال على مجتمعات وأنظمة متعاقبة. كما ان أحداً لم يكتب عن الشخصية الإنكليزية البحتة كما فعل أورويل الذي كان مثالاً حياً عنها، كان أورويل إنكليزياً أصيلاً في حبه للريف وفي البروتستانتية الحاضرة دوماً في ضميره، والتي جعلت منه دائمَ الغضب من الظلم ومعاناة الفقراء. وكان إنكليزياً اصيلاً في صراحته المفرطة، فبرأيه «الحرية هي إخبار الناس بما لا يريدون سماعه»... وتجدر الإشارة الى ان أورويل اتخذ لنفسه اسماً مستعاراً من طريق الصدفة. كان يريد نشر كتابه «الانحطاط والتشرد في باريس ولندن»، لكنه لم يرد ان يحرج عائلته. السيد والسيدة بلير (والده ووالدته) كانا من «الطبقة المتوسطة-العليا السفلى» (بكلام أورويل)، بمعنى آخر كانا من الطبقة المتوسطة-العليا، التي تفتقر الى المال لكنها تكترث كثيراً بالمكانة الاجتماعية، والعائلة لم تكن لترغب بارتباط اسمها باسم كاتب بسيط ومفلس، فغيَّرَ اسمه من إريك بلير إلى جورج أورويل. اريك بلير كان رجلاً محافظاً هادئاً، وحتى غريب الاطوار، إلى درجة ان بعضهم وصف بساطته ب «المريعة للغاية»، لكونه غالى في اظهارها. وفي هذا الاطار، يقول عنه بيتر دافيسون إنه يمتلك «براءة المتوحش». فن السياسة في احدى المرات، قال جورج أورويل إنه، وقبل اي شيء، يريد تحويل الكتابة السياسية الى فن، وقد نجح في تحقيق ذلك. استفز قراءه بطريقة مثيرة، وكأنه يتعمد ان يتحداهم ليفكروا، ليس فقط مرة واحدة بل مرتين واكثر، في ما يكتبه. وحقيقة ان أورويل لم يكن إنكليزياً من الطبقة المخملية جعلته على تماس مع القراء العاديين كما المثقفين. في عالم السياسة، يمكن أي شخص ان يدعي ان أورويل كان حليفاً له. مواقفه المناهضة للشيوعية (بعد ان كان مناصراً لها)، وكراهيته للبيروقراطية تنسجمان مع اليمين، بينما خطبه المناهضة للإمبريالية والداعية الى العدالة الاجتماعية والغاء الطبقية تحاكي شعارات اليسار. والأهم ان الجميع يعتقد ان ما فضحه أورويل من رياء فكري ونفاق سياسي عبر كتاباته ينطبق تماماً على خصومهم السياسيين. يقول أورويل: «اللغة السياسية... معدة خصيصاً لتجعل من الأكاذيب حقائق، ولتحول الجريمة إلى عمل محترم، ولتعطي مظهراً من الجمود إلى الريح المنطلقة». لعل هجاء أورويل السياسي لم يفقد بريقه ومعناه بعد كل هذه الأعوام، لا بل إنه تكرس عبر حقائق راهنة، ما جعل نقاداً كثراً يصفونه بالقديس. ومصطلح « أورويلي» اليوم هو تعبير عالمي يستخدمه كل من أراد التحدث عن تنبؤ سيئ، او عن حالات من القمع والاستبداد من اعتداءات على الحرية او التنصت على المكالمات الهاتفية او السجن. احدهم وصفه بأنه «دون كيشوت على دراجة هوائية». اليوم يتذكره العالم على أنه الروائي الذي اكتشف عيوب المستقبل.