معظمنا رأى أو سمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما تبثه من صور ومقاطع فيديو تظهر أنواعا مختلفة من الإسراف في الأكل والشرب أو التباهي المبالغ فيه من غسل بالدهن أو من الهدايا التي فيها بذخ، وغيرها من التصرفات التي أعتقد أن فيها الكثير من التجاوزات التي طرأت مؤخرا من بعض أفراد المجتمع. لا شك في أن ديننا الحنيف حث على إكرام الضيف، حيث قال عليه الصلاة والسلام : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ". ولا شك في أنه على العموم هي عادة متأصلة فينا نحن العرب وتلك مندوبة لا إشكال فيها ، ولكن حين تتجاوز الأقوال والأفعال الحد المعقول الطبيعي والعرف السائد ، يدخلنا ذلك في دائرة الإسراف والبذخ ، وإضاعة المال والوقت والجهد. ودعونا أولا نحدد ما هو الإسراف، يقال: إن الكرم هو فضيلة تقع بين رذيلتين البخل والإسراف، ولعلي أحاول أن أعرف الإسراف بأنه إهدار وتبديد للموارد الطبيعية دون حاجة. والله - سبحانه وتعالى - يقول : "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" ، و يقول أيضا : "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " ومن هذا الباب لنا عدة وقفات مع تلك الظاهرة المنتشرة تفاخرا مؤخرا، منها : إن التنافس في هذا الجانب مذموم وغير محمود لما يحدث فيه من إهدار للنعم من مأكل ومشرب خصوصا في بعض الاجتماعات الأسرية والمناسبات ، ويتلوها مباهاة وهياط وإسراف ليست من الكرم في شيء. ومن هنا لابد أن يتدخل العقلاء في الحد منها بحزم منذ البدايات لأن السفينة حين تَخرق ببعض التصرفات سوف تغرق بكل من فيها !! ومنها لابد من الإحساس بالظروف التي يمر بها بعض الدول العربية المجاورة من حصار وحروب وتجويع، والغريب أن وسائل التواصل تنقل طرفي النقيض ولا معتبر، إضافة إلى ذلك أين اللحمة العربية والإسلامية والجسد الواحد الذي كنا ولا نزال نتحدث عنه كثيرا؟! أليس حين نتباهى ونعرض صور إسرافنا للعالم فيه إيذاء نفسي ومعنوي للمتضررين من الحروب والحصار، بل إن فيه زيادة لآلامهم وأحزانهم، فهل وصل الأمر الى أن نتباهى بالإسراف وبعض أبناء ديننا من دول شقيقة قد لا يجدون مأكلا ولا مشربا ولا غطاء ؟! ومن الأمور التي لابد أن نتذكرها أن الدنيا دول، واليوم لك وغدا - لا سمح الله - عليك، ولابد من الاعتبار بمجتمعات كانت غنية بكنوز من باطن الأرض وظاهرها، فتبدل الحال من الامن الى الخوف، ومن الشبع إلى الجوع. وقد حدث ذلك قديما وحديثا، وانظروا في تاريخ الحضارات والدول فإن فيها خير عبرة وشاهد. والله - سبحانه وتعالى - يقول : "وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كان يصنعون". ومن الشواهد التاريخية للذين عاشوا حياة الرفاهية والبذخ، ثم تبدل الحال وزالت تلك النعم ، ما ذُكر عن أن ماري أنطوانيت (ملكة فرنسا وزوجة لويس السادس عشر) التي كانت تعيش حياة البذخ والإسراف والناس كانوا لا يجدون ما يأكلون ، وقالت بسذاجة وغباء : إذا لم يجد الفقراء الخبز، فليأكلوا الكعك !. وفي نفس المنظور حين جعل المعتمد ابن عباد زوجته وبناته يطأن بأرجلهن المسك والكافور، بدل الطين لتدور الدوائر عليهم بالفقر والحرمان ، وتلك عبرة لمن يقرأ التاريخ متمعنا معتبرا لا قارئا متسليا !! فاعتبروا يا أولي الألباب. وعلى الجانب الآخر لماذا لا نعتبر من الشعوب التي تقدر وتحافظ على النعمة وفي نفس الوقت متقدمة صناعيا، فقد عُرف عن شعب مثل اليابان أنهم لا يضعون في أطباقهم إلا قدر حاجتهم. وأعتقد أنه حان الوقت أن نعي أن الإسراف في الأكل والشرب وغيرهما ليس مسألة شخصية لأن فيه تضييعا وإهدارا لموارد البلاد الطبيعية التي هي حق لكل مواطن، بل هي حق لكل إنسان على وجه الأرض!.