نشفق على من يؤذي نفسه فنبتدره بكل ما نستطيع لنمنعه من الاعتداء على جسده، أو على روحه، أو حتى على أمواله.. فكيف إذا تعدى إيذاؤه إلى غيره!! من يبتذل نعم الله - تعالى - من أجل لقطة نادرة تحقق سمعة بلهاء، أو من أجل لحظة خاطفة يسجل فيها براءة اختراع لسرفه الذي سماه كرما، لا يمكن أبدا أن يكون من الصنف الأول الذي يفتك بماله فحسب، لا، بل هو من الصنف الآخر الأسوأ؛ وهو الذي يعتدي على غيره، فقد جرت عادة الله - تعالى - أن يعمَّ البلاء إذا سكت الناس عن الكفر بأنعمه، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [سورة النحل 16/112]، والتحذير الرباني متكرر ومتعدد في التحذير من العبث بصمام الأمان البشري، وحقهم المقسوم بينهم، قوت الإنسان وسُداه، كما في الآية الكريمة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم 14/7]، فقد يظن هؤلاء أن ما في أيديهم يملكون حفظه من الزوال، وينسون أنهم مستخلفون فيه، وأن لله فيه حقا يُذهبه عنهم إلى غيرهم إذا منعوه؛ كما في حديث عظيم (حسن)، يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم". وبقدر ما أصابني من هم وغم مما رأيت من التسميع بما يزايد به ويتطاول به بعض من جهلوا سُنن الكون، فراحوا يُهدرون - باسم الكرم والأصالة - مواردهم التي تمثل جزءا من موارد بلادهم، فقد سُررت غاية السرور من الإنكار الواسع للعنتريات المصنَّعة، والمشاهد التمثيلية الساقطة التي سجلتها عدسات (كأني ما أدري)؛ لتَبُثَّ في الناس ألوانا جديدة من الهدر الاقتصادي، والاستهتار بقوام الحياة، بل لتزيد من حنق المحرومين، وقهر المحتاجين، الذين قد لا يجدون إلا أقلَّ ما يكفيهم. نعم، يجب أن يستمر الاستنكار والاستهجان، ليس على أعمدة وسائل التواصل الاجتماعي فقط، وإنما حتى في مجالسهم التي يسفكون فيها دماء الفضيلة بسكين الفضيلة، ويمزقون فيها القيم الراقية بخنجر القيمة، ما أحسن أن نرفع أصواتنا بالرفض لهذه المهاترات، كما يرفع أولئك المترفون أصواتهم بادعاءاتهم الفارغة. وبعد كل هذا، المستهجنون لما سموه (الهياط) وهو في اللغة: ضجيج وشَرّ وجَلَبة، وفيما حصل كل هذه الشرور، قد يقعون في (هياط) مماثل، ولكن دون تصوير، ودون ضيوف، بل مع أنفسهم، فهناك من يقترض من المصارف من أجل كماليات، أو استبدال سيارة أو جوال، أو سياحة، فقط حتى لا يكون أقلَّ من غيره، حتى وإن انتهى به الأمر إلى السجن!! ومن أوحى إليه بهذا من زوجة أو ولد أو صديق، لن يتحمل بعد ذلك ريالا واحدا، ولا يوما واحدا في السجن!! {لينفق ذو سعة من سعته} هذه هي القاعدة القرآنية، {ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} لا يقترض ولا يرهن ولا يبيع ما يحتاجه، {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}، وهنا يأتي الوعد الإلهي الكريم: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} ، فمن مضى مع النظام الإلهي هذا، حصل على موعوده، ومن أبى إلا الاعتداء على نفسه وعلى مجتمعه وبلاده بتبديد ثروته، والتمظهر بما لا يستطيع، أو حتى التباهي والتفاخر بما يستطيع، فإن الوعيد لا ينتظره هو فقط، وإنما ينتظر المجتمع الأخرس كله، بدءا بأسرته، وانتهاء ببلدته .. دفع الله عنا جميعا وبال الشرور. فلنستمر في هدم هذا المجد الكاذب الذي أراد تشييده أولئك النفر لذواتهم على حساب أمتهم، بهياطهم الممجوج، في جامعاتنا ومدارسنا ومساجدنا ومقرات أعمالنا وإعلامنا، وعلى مدوناتنا الخاصة، ولتكن أصوات العقل والقيم الجميلة أعلى من جلبة وضجيج المسرفين المترفين، حتى يكونوا غرباء في وطن العطاء بلا منّ، والثراء بلا تفاخر، والرفاه بلا تكبر.