هناك مساحات لتأمل مفهوم وقيمة وحدود الحرية من قبل أي كاتب يعتبر نفسه مسؤولا أمام الله أولا ثم مدركا لقيمة الحرية في الكتابة، ومتفهما لأثر الكتابة على الحرية، لم يستطع أي مجتمع تحديد مفهوم الحرية إلا عبر عبارات وشروحات فضفاضة جدا لا تلمس من الواقع والعرف الكتابي أي ملمس، بل إن تحرير وتعريف الحرية أضحى مرتعا لكل كاتب مخضرم أو مبتدئ أو حتى "كويتب" متحرش بالورق، فظن معظم هؤلاء أن الحرية يجب تعريفها من منطلقاتهم هم، ومن خلال فهمهم، وعبر مبادئهم "المطاطة". حيث أهملوا مفهوم وأبعاد الحرية ذاتها حين صنع كل واحد منهم حرية خاصة بها ادّعاها فصدقها ثم عمل وفقها، فكل كاتب يعتقد أن مساحة رأيه، ورغبته في النقد، أو التعليق على أمر ما يعتقد أن كل ذلك هو مساحة الحرية وحدودها عنده، لذا توارى بعض الكتّاب خلف ميولهم وتوجههم الفكري والنفسي بكتاباتهم، وظفوا الكتابة لخدمة مسارهم الفكري، وميولهم الانفعالية، وتحيزهم لطرف دون آخر، وانطلقوا إلى مفازات شاسعة من الخطأ والخلط بين ما يمكن كتابته، وما لا يمكن، وبين ما يتوجب الكتابة عنه وبين ما لا يفترض، وبين أسلوب تلك الكتابة المعتمد لدى الكاتب، وطريقة الكتابة المفروضة، وكذلك لغته الحاصلة واللغة المناسبة. الحرية المسؤولة عبارة رائعة جدا، يتوقف عندها الكثير منبهرا ومعتزا، وحين ترغب في تعريف ما الحرية؟ وما المسؤولية المقصودة؟ يشتعل اللغط، ويصخب الجدل حولنا وحولهم، ويبدؤون باستدعاء منطلقاتهم، ورغباتهم، وميلهم ليعرّفوا ذلك. تضمنت كثير من الكتابة هنا وهناك حرية مزعومة يلتصق بها البعض، جعلت بعض من يمارسها يسيء للدين، ويحرك الثابت، ويثبت المتحرك، ويجلد المجتمع بلا رحمة، وينهش قيمة الوطن بمقارنات بائسة، ويقدم نقمته على نقده، واجتراره على أفكاره، وعتمته على تنويره، وتشاؤمه على تفاؤله، فسادت فوضى كبيرة في بعض البقع الكتابية ساهمت في شتات المتلقي وإبعاده عن الفهم وإقصائه عن التفكير، ومصادرة رأيه، والعبث بمشاعره، يتخيل بعض الكتّاب أن الحرية "فقط" هي الهدف ولا يتحدثون عن المسؤولية ولا المصداقية يتخيلون أنها تعينهم على الإبداع، وأن قيود الكتابة ستقلل من قيمة ما يكتبون وتجعلهم أبواقا، ويظن بعضهم أنه يفترض أن يترك الكاتب بلا رقابة، لا مساءلة، ولا متابعة، ولا ضوابط. وفي ذلك تتبين أحادية مثل هؤلاء الكتّاب فلا يوجد في قاموسهم المسؤولية، والاستشعار، والوعي، وتحمل الآثار حيث لا يهتمون إلا بما يريدون كتابته وليس بما يحتاج المجتمع لكتابته. ويتضح أن الواقع بين حرية الكاتب وقيود الكتابة هو واقع مرتبك حيث لا قيود تتحسس الحرية ولا حرية تلامس القيود. كما انه يمكننا استخلاص أن الفهم السائد لحدود الحرية، وإدراك المسؤولية هو فهم مشوش جدا، ولا يوجد إقبال على تحمل المسؤولية كما هو الهوس بالكتابة بلا قيود. مما ينتج طرحا فرديا وأحاديا لا يقدم للمتلقي، أو القارئ إلا وجهات نظر، أو آراء خاصة جدا لا تتعاطى مع عمق وتفاصيل الموضوع المطروح بما ينفع الكل وليس الجزء البسيط. من يظن أنه لا كتابة جليلة، ومبدعة إلا باختراق سقف الحريات، وتخريم الضوابط الدينية، والأخلاقية، والمجتمعية، وبثقب الذوق العام، والسمت الاجتماعي والفردي، من يظن ذلك فهو مخطئ جدا، بل هو يهتم فقط بما يريد أن يكتبه ويكسبه، لا ما يتوجب عليه من أمانة الكتابة. ختام القول: لا حاجة لضوابط قانونية مقابل فقدان الرقابة الذاتية التي تستند لمراقبة الله عز وجل اولا ثم مراعاة الثوابت والقيم الاخلاقية والاجتماعية المختلفة، اكتبوا وانتقدوا لكنكم لستم محتاجين لإراقة الذوق على صفحات السوء. اكتبوا واصنعوا ضوابطكم وقيودكم من ضمائركم، اكتبوا واطرحوا أفكاركم لكن احترموا المتلقي وفهمه، وضعوا كل شيء في قدره ومكانته.