«عندما تندلع الحروب.. تكون الحقيقة هي أولى الضحايا، وعند الثورات تكون الموضوعية هي الضحيّة الكبرى».. هكذا قال فيلسوف يوناني قديم. وما بين الحروب والثورات تقع أحداث أخرى، لا نعرف إن كانت بنشوة الانتصار، أم بطعم الهزيمة.. التاريخ وحده هو من يحكم بالنهاية.! زيارة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، للقدس المحتلة، في 19 نوفمبر 1977، من النوع الأخير، الذي أثار جدلاً لم ينتهِ حتى اليوم، ورغم مرور 38 عاماً على زيارة أول رئيس مصري بل وعربي يخطب في الكنيست الإسرائيلي، فمهدت الطريق لاتفاقية كامب ديفيد، بولاية ميريلاند الأمريكية، التي وقعها السادات بعدها بعامين في 29 مارس 1979.. فكانت أول صلح "منفرد" جلب على السادات الاغتيال في النهاية، ووضعت العالم العربي في أصعب وأحرج لحظاته التاريخية، التي يكاد يُجمع كثيرون على أنه يدفع ثمنها حتى اليوم، فيما يرى آخرون أنها زيارة استبقت المستقبل لما يجب أن يكون في النهاية.. السلام مع العدو.. أو كما خرجت بعض الصحف الإسرائيلية لتكتب فرحاً: "شكراً للرب الذي أعاشنا لنجد علم إسرائيل يرتفع في سماء القاهرة".. أكبر عاصمة عربية. البداية الغامضة "ستُدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم إني مستعد إلى الذهاب لبيتهم نفسه، إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته". بهذه العبارة، التي قالها السادات في 9 نوفمبر 1977، خلال كلمة ألقاها أمام مجلس الشعب، في جلسة كان يحضرها يا للصدفة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لم يكن يصدق أحد أن السادات يرمي بحجره المفاجئ، باستعداده للذهاب إلى القدس؛ لمناقشة شروط السلام في الشرق الأوسط أمام الكنيست دون شروط مسبقة. مقربون من السادات كانوا يعتبرونها "مزحة"، حتى أن أرملته، السيدة جيهان، أكدت ذات مرّة في لقاء خاص مع (اليوم) قبل أكثر من عام، أنها فوجئت بكلماته، وكانت تعتبر جملته العابرة نوعاً من "مقالبه" السياسية، وقالت وهي تبتسم: "الزوجة آخر من يعلم".! ولم يكن العالم -الذي وجد نفسه أمام مفاجأة من العيار الثقيل- يدرك أن الرجل لم يكن يمزح، وإنما سيقدم فعلاً على الخطوة الأكثر إثارة في تاريخ الشرق الأوسط، بعد 10 أيام فقط من كلماته.. ليضع الجميع -وأولهم المصريون والعرب- أمام الأمر الواقع.. وكان مثيراً أن يتلقف رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجين الفكرة، ويعلن دعوة رسمية للسادات بزيارة القدس!. ملابسات وتحولات القرار المثير للجدل لم يأت فجأة، وإنما يبدو أن سبقه تفكير طويل تزامناً مع ظروف داخلية وخارجية جعلته يقدم على المغامرة. سياسيون في القاهرة قالوا ذلك، خاصة وأن المتأمل في شخصية السادات، يعرف أنه ليس من النوع المغامر أو المقامر، ولكنه "يحسبها جيداً"، ويستدلون على ذلك بما فعله ليلة قيام ثورة 23 يوليو، حينما ذهب إلى السينما مع زوجته، وبقضائه الليل فيما زملاؤه يسيطرون، مكتفيا هو بإلقاء البيان صبيحة اليوم التالي. ربما كان إدراك السادات بعدم جدوى قرار مجلس الأمن رقم 338 الخاص بوقف إطلاق النار، إضافة لتدهور الاقتصاد المصري، واعتقاده بأن أي اتفاق بين مصر وإسرائيل سوف يؤدي إلى اتفاقات مشابهة للدول العربية الأخرى، وبالتالي حل للقضية الفلسطينية، سبباً لجعله ينفرد بالقرار، رغم اعتراض شريكه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على الجلوس على طاولة مفاوضات مع إسرائيل، لدرجة أن أقوالاً تسربت عن أن الأسد حاول اعتقال السادات الذي أخبره في زيارة سريعة لدمشق بعزمه.. لكن طائرة السادات كانت قد غادرت المجال الجوي السوري.! ربما أيضاً، ما حدث في إسرائيل من تغييرات سياسية، وتمثلت في فوز حزب الليكود في انتخابات عام 1977، وهو الحزب الذي كان الأقرب إلى تيار الوسط، ولا يعارض فكرة الانسحاب من سيناء.. بالتزامن مع يقين السادات بأن الدور الأمريكي كوسيط بين العرب وإسرائيل لن يُجدي في تغيير الواقع السياسي في الشرق الأوسط، أو الضغط على الدولة العبرية، ما جعله يعمل بالمثل العربي: "بيدي لا بيد عمرو"، رغم أنه الزعيم العربي الوحيد الذي اخترق الصورة النمطية، ويصرح علنا بأن "99% من أوراق اللعبة بيد الولاياتالمتحدة".! الطريق إلى القدس ما اتضح لاحقاً، كشف أن وراء الفكرة الرئيس الروماني الراحل نيكولاي تشتوشيسكو، الذي أسرَّ للسادات خلال إحدى زياراته لبوخاريست بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجين لديه رغبة قوية في تحقيق السلام، اتصالات سرية أخرى، تمت في المغرب برعاية العاهل الراحل، الحسن الثاني، التقى فيها وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها موشي ديان، بمندوب شخصي عن السادات هو الراحل حسن التهامي.. تم خلالها إبرام المفاجأة التي هزت العالم العربي. صبيحة 19 نوفمبر 1977، حيث كانت وقفة عرفات، كانت طائرة السادات تحط في مطار بن جوريون، قادة إسرائيل لا يصدقون أن الرجل بينهم، ينزل من على سلم الطائرة، بابتسامته العريضة التي تكتم وراءها صراع أجيال وأحقاد حروب مريرة، وبينما كان هناك إسرائيليون يصطفون في الشوارع، يبكون غير مصدقين أنفسهم، كانت هناك جموع عربية أخرى، تتنفس نار الغضب، وعواصم التزمت الصمت تحت وقع المفاجأة المذهلة.. تتدثر بشعور الطعنة الغادرة. في اليوم التالي، حيث صلاة العيد في المسجد الأقصى، وصل السادات، فاستقبله الشيخ حلمي المحتسب رئيس الهيئة الإسلامية في القدس العربية، وعدد من أعضاء الهيئة وكبار رجال الدين، والشيخ مصطفى الأنصاري رئيس سدنة المسجد، والشيخ كمال التميمي مراقب التوجيه الإسلامي في القدس.. ومع هتافات مدوية باسمه.. تنفس السادات الصعداء. في ذات اليوم، وأمام الكنيسيت، ألقى خطابه الشهير بكثير من الروية والهدوء، وشدد على أن فكرة السلام ليست جديدة، وأنه يستهدف السلام الشامل، وبعد أن أنهى مهمته وعاد إلى القاهرة، استقبله المصريون، باحتفالات شعبية، يُقال إنه تم الحشد لها مسبقاً في الشوارع.. ليدخل عالمنا العربي بعدها في أتون ملابسات متعددة، خرجت مصر منها على الحياد تماماً، حسب مراقبين ومحللين، وخاصة بعدما وقعت اتفاقية السلام واستردت سيناء بموجب اتفاقية كامب ديفيد الأكثر جدلاً.. واستدلوا على ذلك، بضرب إسرائيل المفاعل النووي العراقي (1980)، ودخول القوات الصهيونية بيروت لأول مرة (1981) وغيرها من المآسي التي ألقت بظلالها دون شك على مسار سلام لم يتحقق فعلاً، لرفض غالبية المصريين أنفسهم فكرة التطبيع مع الدولة العبرية.! الثمن والحقيقة بعد كامب ديفيد بعامين، اغتيل السادات في 6 أكتوبر 1981، وسط جيشه وقواته، دفع ثمن سلام كان يبحث عنه، ويأمل في أن يكون رجله الأوحد، بعد أن كان يكرر دوماً "أنا رئيس منتصر"، وأن زيارته للقدس تهدف لإحراج إسرائيل المهزومة.! قُتل السادات "المنتصر" برصاص مسلم متشدّد، مثلما اغتيل بيجين "المسالم" برصاص يهودي أكثر تشدّداً، لتبقى الحقيقة التي لم يُضيعها التاريخ أبداً، حتى لو ضاعت في الحروب أو الثورات.. أو تحت وطأة سلامٍ لن يتحقق أبداً، بين الذئب وبين الماعز، كما تقول التوراة. تبقى الحقيقة: ما أخذ بالقوّة.. لا يُسترد إلا بالقوة.