من يتابع ما تبثه وسائل الإعلام من أخبار وصور عما يجري في محيطنا العربي، يدرك أنه ليس أسهل من صناعة الفوضى بكل أشكالها. ولعل أهون أشكالها إطلاق حشد يملأ الطرقات صخبا وأَعلاما ولافتات وشعارات، ثم ينفلت زمام الأمور فتعزف سيمفونية العنف ألحانها النشاز، لتعيث في الممتلكات الخاصة والعامة خرابا. والسؤال الذي ينبغي طرحه هو: وماذا بعد؟ سؤال قد لا يجد له إجابة، فغالبا ما تتجه تلك الفوضى إلى المجهول. فلا ينتج عن الافتراضات الأولية غير الصائبة أو المبسطة أكثر من اللازم إلا الفوضى الخالصة (2011م وما تلاها مثلا). وقد يأتي من يستثمر الفوضى لأجنداته الخاصة. وحين تنحرف التحركات عن مسارها يفيق بعضهم من حالة الانتشاء ليتساءل: من يحرك تلك الفوضى؟ ومن المستفيد منها، البيادق أم اللاعبون؟ أسئلة لا تبرر الخلل، ولا تنفي وجوده كمحرك رئيس لذلك التململ. كما أنها لا تنكر على الناس التطلع إلى واقع أفضل، ولا تقترح حياة راكدة آسنة. لكن حتى الفوضى يتم تزويقها وتسويقها. يرى منظرو «الفوضى الخلاَّقة» أنه لا وجود لما يسمى «فوضى» وإنما هو مستوى آخر مختلف من النظام. كل شيء يعتمد على الزاوية التي نطلُّ منها على الأشياء. ومن يقتنع بأن «ما نسميه مصادفة إنما يعني جهلنا بآلية السببية المعقدة»، قد لا يعترض على ما تقوله الحكمة التَّاوِيّة: «إن رفَّة جناح فراشة في آسيا قد تغير نظام العواصف على الجانب الآخر من كوكب الأرض». وأغلب الذين عالجوا موضوع الفوضى علميا وفلسفيا أشاروا إلى هذا المثال. على اعتبار أنه لا يوجد أخف وزناً من رفَّة جناح فراشة، ومع ذلك فإنه يحدث ذلك التأثير. وبمعزل عن ذلك المنطق الفلسفي، فإن الفوضى الخالصة ليست برنامجا تنمويا، والارتجال ليس خارطة طريق، والخلل لا يعالج بخلل أسوأ منه. شهد التاريخ البشري فوضى عارمة هنا وهناك بسبب أحداث لا وزن لها مثل «رفَّة جناح فراشة». وإذا كانت العبرة بالنتائج، فقد وعَت بعض الأمم الدرس جيدا فحوَّلت الفوضى إلى نظام يتطلع كثير من المجتمعات إلى ان تحذو حذوه. يقال «إذا لم يكن الإناء مكسورا فلا تصلحه». قاعدة لا يرى صوابها من يقيّم الأشياء وفقا لحقائقه الخاصة. فالعالم، بكل ثقافاته وتنوعه، وفقا لتلك الأيديولوجية، هو مجرد فوضى عارمة، أو «إناء مكسور»" ينبغي إصلاحه. وإذا كان الإبداع الخلاق هو تحويل الفوضى إلى نظام، فأين هو الخلق والإبداع في تحويل النظام إلى فوضى؟ وأين هو الإبداع في صراع عبثي؟ وأي المعنى لتدمير المنجز الحضاري الإنساني، وترويع الآمنين، وتشريدهم من ديارهم، وإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء؟ ما البديل للمبنى القديم الذي يتم تقويضه؟ هل هو بناء مبنى جديد أكثر حداثة وملاءمة للعيش أم المبيت في العراء؟ سؤال لا يعيره أحد اهتماما في معمعة الفوضى. وفي المقابل قد يأتي من يذكرنا بأن ذلك مجرد «وعكة عابرة»، وأن هنالك ضوء في نهاية النفق. وأن البشرية قد مرت بمراحل أسوأ من هذه لكنها تجاوزتها. وقد يأتي من يذكرنا بأسطورة طائر الفينيق كرمز للانبعاث والتجدد والبقاء. ذلك الطائر الذي يحترق وتتشكل من رماده يَرَقة صغيرة سرعان ما تتحول إلى طائر جديد. فهل نحن بحاجة إلى «تميمة» التفاؤل تلك كي يبقى معين الأمل دافقا؟ ربما. وهو ما يؤكده قول الشاعر: «ما أضيقَ العيشَ لولا فسحة الأمل».