زين العابدين الركابي *نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية من غرائب مفكري الغرب، أو (للدقة والعدالة) من غرائب (بعض) مفكريهم.. أنهم - وهم يؤبّنون الماركسية والشيوعية - يستعيرون أدبياتها ومفاهيمها.. ومن صور هذه الاستعارة لمقولات ماركسية: أ) استعارة مقولة «الحتميات التاريخية»، وهي استعارة تبدت - أكثر ما تبدت - في كتاب فوكوياما «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، فكما زعمت الشيوعية أن الحتمية التاريخية ستقود البشرية - حتما!! - إلى عهود الشيوعية الأولى التي انتفت فيها (بزعمهم) الاحتكارات والصراعات والمظالم والحروب، وأن الشيوعية التالية هي السقف الأعلى والنهائي للتطور البشري، زعم فوكوياما (أيضا) أن الرأسمالية الليبرالية هي الحتمية الموضوعية التي ستختم بها التطورات البشرية.. نعم. إن الرجل قد تراجع، تحت مطارق النقد الموضوعي والمنهجي.. تراجع عن تطرفه الفكري الذي لا يليق بمثله، وهو تراجع يدل على عقل يحترم النقد ويستفيد منه، وعلى شجاعة أدبية رفيعة.. وفي كل خير. ب) من صور الاستعارة الغربية من الفلسفات الماركسية: نظرية.. أو مقولة «الفوضى الخلاقة».. فمن ثوابت الشيوعية أن النظام العالمي القديم كله قد فسد وتعفن لكثرة المظالم، وطول أمدها، وأنه يتوجب هدم هذا النظام كله بالقوة، وهذا هو نص مقولتهم في البيان الشيوعي الأول (المانيفستو): «إن الشيوعيين يعلنون جهرا أن أهدافهم لا يمكن تحقيقها إلا بقلب النظام الاجتماعي الحالي بأكمله بوسائل العنف».. وعبر عملية الهدم - التي تشيع الفوضى بالضرورة - «يتخلق» نظام جديد أفضل من القديم (حتما!!) بناء على قاعدة فلسفية يقينية عند الماركسيين وهي أن «الشيء يلد نقيضه الأرقى منه» في سلسلة التطور البشري. إن رموزا غربية تبنت هذه النظرية فلسفيا واستراتيجيا وتحدثت عنها، وعملت على تطبيقها.. فماذا كانت النتيجة؟ من المنهج العلمي الصحيح لتقويم «النظريات وتطبيقاتها»: القياس بالأثر والنتيجة.. فلنُعمل هذا المقياس في تجارب ثلاث انبنت على نظرية «الفوضى الخلاقة»: 1) التجربة الأولى هي «الشيوعية».. ومما لا ريب فيه أن القياس بالأثر يقول: إن هذه التجربة فشلت على مستوى المجتمع والدولة. 2) التجربة الثانية هي «غزو العراق».. فماذا «خلقت» الفوضى الخلاقة في العراق؟.. «خلقت» عراقا كسيحا مهدما حضاريا، ممزقا اجتماعيا وسياسيا. فلم يصبح قاعدة لنفوذ الغزاة كما كانوا يتوقعون بموجب ما تخلقه نظريتهم من خلق جديد مفيد، بل أصبح العراق قاعدة لنفوذ دولة أخرى معادية لهم، ولو في ظاهر الأمر. 3) التجربة الثالثة هي «إنشاء القاعدة» التي طفقت تضرب بالعنف الدامي يمينا وشمالا.. ومن الكذب على الذات، وعلى الآخرين، الزعم بأن اللاعبين قد أنشأوا التطرف والغلو إنشاء. فبذور الغلو عندنا (بسبب الفهم المنحرف للدين) أسبق من وجودهم، بيد أنه من المؤكد أنهم «وظفوا طاقة الغلو والتطرف» في صناعة «فوضى خلاقة».. وبقياس الأثر.. ماذا خلقت هذه الفوضى الخلاقة؟ خلقت رعبا ودمارا في ديار الذين وظفوها واستعملوها: بمنطق روياتهم هم لما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. أعلّمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني والسؤال الكبير المثير هو: هل يمكن أن يكون «الربيع العربي» صيغة من صيغ «تطبيقات الفوضى الخلاقة»؟ السؤال مذهل «!!!!!!». تريليون علامة تعجب. نعم. بيد أن ما هو أكثر منه ذهولا ألا يُطرح هذا السؤال من خلال سياقات تتعلق بحاضر الأمة ومصيرها؛ مجاملة أو منافقة للرأي العام. وأول مصادر الذهول: أن يكون الخوف من الرأي العام بديلا للخوف من الحكام المستبدين الهالكين، أي الخوف الذي يصادر «حرية التعبير» ذاتيا.. وكثيرا ما تكون سطوة الرأي العام كبتا رهيبا لحرية التعبير، حتى وإن سمحت القوانين بحرية نسبية للتعبير. ثم إن السؤال الكبير المثير الآنف لم ينشأ من «العدم»، بل تكونت مضامينه من قرائن ووقائع تدل على «الفوضى».. من هذه القرائن والوقائع: أ) منذ أيام، شن مسلحون ليبيون هجوما مسلحا على مقر الحكومة الليبية، مطالبين بحقوقهم كقوى مسلحة شاركت في المغرم، أي في الكفاح ضد نظام القذافي، وينبغي أن تتمتع بالمغنم (أموال في شكل أجور ومنح).. فردت الحكومة الليبية بأن هناك (لعبا وتزويرا)، بمعنى أن كثيرا من هؤلاء المطالبين لم يشاركوا في القتال ضد القذافي، وإنما هي دعوى بلا دليل وهذا «نوع من الابتزاز المالي».. التعبير بين القوسين تلفظت به الحكومة الليبية.. فهل هذه فوضى أو نظام؟ إنما فوضى في السلاح وحمله واستعماله، وفوضى إدارية في إدارة المال العام، وفوضى تمثلت في انعدام هيبة الدولة، والاجتراء على غزو مقر الحكومة. ب) في مصر: الحكومة ترفض أن تخضع لمساءلة البرلمان ومحاسبته.. وهذا إلغاء واقعي لصلاحيات البرلمان التي من بدهياتها مساءلة الحكومة ومحاسبتها.. فهل هذه فوضى أو نظام؟ ج) وفي مصر أيضا - وفي زمن الفوضى في الفتيا الدينية -: أصدر أحدهم فتوى «دينيّة» (أي دينية سياسية) حكم فيها بالكفر (المخرج من الملة) على المجلس العسكري، وألْحق فتواه بما يترتب عليها، وهو وجوب قتال رجالات المجلس العسكري، بعد إعلان الجهاد ضدهم.. ومن المعروف أن هؤلاء الرجال مسلمون، ربما من بينهم من هو أصدق إسلاما من هذا المفتي، على الأقل ليس من بين هؤلاء من اجترأ على أن يتحمل تبعة «تكفير» المسلم (كما فعل مفتي هذه الفوضى الطامة العارمة).. روى البخاري (بسنده) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه»، أي رجع الحكم بالكفر على من قذف مسلما بالكفر.. فهل هذه فوضى أو نظام؟ ألا إنها عين الفوضى ومحضها. د) ومن صور الفوضى الخالصة: «سيولة» المعايير وميوعتها وتلونها حتى أصبحت تتلون بلون أمزجة وأهواء حملتها.. ومن أدق خصائص تعريف الفوضى: تحطيم المعايير والمقاييس حتى تصبح الأهواء هي المعايير؛ فمن صور هذه الفوضى: الطيش والنزق في الفتوى الدينية (راجع الفقرة «ج» الآنفة)، والجهالة المطبقة المتمثلة في الفتوى في السياسة الخارجية، وهي فتاوى قامت على أنقاض المعايير الموضوعية للسياسة الخارجية، وهي: الحرص على المصلحة.. وتكثير الأصدقاء.. وتقليل الأعداء.. ومن تلك الصور الفوضوية شيوع «ثقافة التبرير»؛ تبرير أعمال وأقوال وتصرفات ثوار الربيع العربي.. ومن هذه التبريرات: إرجاء تطبيق الشريعة الإسلامية (والمرجئة هم إسلاميون)، وتبرير تبريد الصراع مع إسرائيل بمنطق أن الظروف غير ناضجة لذلك.. وفي حقيقة الأمر، فإن هذه التبريرات هي ذاتها تبريرات الأنظمة السياسية التي ثارت عليها ثورات الربيع العربي.. فالحكام الهالكون لم يعلن أحد منهم كفره بشريعة الإسلام، وإنما كانوا يتعللون ب«الظروف غير المواتية».. ولم يجاهر أحد منهم ب«الحب الأبدي» لإسرائيل، وإنما كانوا يقولون إن تبريد الصراع معها أمر تمليه المصالح الوطنية العليا.. وإذا كان الربيع العربي يستعير منطق الأنظمة التي ثار عليها في أهم قضيتين: تطبيق الشريعة.. وإنصاف الشعب الفلسطيني من ظلم الاحتلال الإسرائيلي.. إذا قلد الأنظمة الزائلة، في موقفها من القضيتين الأهم، فلماذا ثار وقدم نفسه بديلا؟! ه) ومن صور هذه الفوضى: تفتيت الإرادة الوطنية التي لن تصح نهضة إلا بوحدتها، على الأقل في مجال ثوابتها التي لا تحتمل الاختلاف.. فحين تتفتت الإرادة الوطنية ما بين جيش ومدنيين، ويتفتت المدنيون تحت رايات شتى باسم «التعددية الجهول»، أي تعددية «التضاد»، لا تعددية «التنوع».. حين يحصل ذلك فإن الوصف الموضوعي له هو «الفوضى» وليس «النظام».