قد تأتيني الخاطرة فأقيدها ثم أصوغها مقالا لكم. وفي بعض الأوقات أبحث عن موضوع أكتبه لكم بين طيات الكتب حينا، وبين الأحداث الجارية حينا آخر، أو ربما عرّجت على الانترنت في بعض الأحيان محاولا إيجاد موضوع مفيد وغريب! وقد صادفت أمرا أعتبره غريبا، ففي 10 سبتمبر من هذا الشهر يوجد يوم يسمى باليوم العالمي لمحاربة الانتحار، فهل تصدقون ذلك! في البداية دعونا نقرأ الإحصائيات والأرقام لنرى إن كان الموضوع فعلا يحتاج إلى يوم عالمي لأن الناس يموتون لأسباب كثيرة منها الحروب والأوبئة والأمراض وحوادث الطرق وغيرها، ولكن كلها لا يتعمّد الإنسان في الغالب قتل نفسه، بل حتى المتهور يحب الحياة ! بحسب منظمة الصحة العالمية، فهناك 800000 شخص ينتحرون سنويا (ولا يشمل هذا الرقم طبعا الذين يحاولون الانتحار ويفشلون)، أي بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية!. ويعد الانتحار السبب الثاني للوفيات للذين أعمارهم تتراوح بين 15 – 29 سنة. والغريب في الأمر أن 75% من حالات الانتحار حول العالم حدثت في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل!! ويزعمون أن السبب هو عدم توفر الإمكانيات الأساسية لاكتشاف أعراضه مبكرا. واستنادا إلى بعض التقارير فإن الطرق الأكثر شيوعا في الانتحار هي المبيدات الحشرية!!. وأشارت الإحصائيات أيضا إلى أن الإناث أقل نسبة انتحارا من الذكور! فهل أصبحنا نحن الذكور عاطفيين وأكثر تأثرا نفسيا منهن!! ومن زاوية أخرى الناس في الغالب يعتقدون أن الانتحار يحدث فجأة وبدون مقدمات وهذه خرافة، بل إن الذين يحاولون الانتحار يتحدثون عنه ساعة بالتلميح وساعة بالتصريح، ويظهر ذلك عليهم جليا من خلال الأعراض القوية التي تشمل القلق والتوتر والاكتئاب المزمن، واليأس من كل شيء من حولهم، ولكن نحن الذين نتجاهل تلك الأعراض! وأما عن الأسباب فيها فتتراوح ما بين الاضطرابات النفسية والعاطفية، ومنها ضياع المال، وفقدان العمل، والقنوط واليأس، ومنها الآلام المزمنة والأمراض المستعصية. ولكن هنا أيضا أسباب أخرى يقولون عنها النمط التاريخي العائلي، فعلى سبيل المثال الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي الذي فاز بجائزة نوبل لرواية «الشيخ والبحر» مات منتحرا، وكذلك والده وأختاه، وبعد ذلك حفيدته! ومن الأسباب الإفراط المبالغ في الاعتماد على المادة والعقل على حساب الروح والقلب، وتلك الظاهرة بلغت أوجها بعد عصر النهضة الأوربية (القرن 15- 16 الميلاديين) ومع بزوغ فجر عصر التنوير (القرن 18- 20 الميلاديين) فقد تغنوا واغتروا كثيرا بالإنجازات العقلية العلمية البشرية. ولذلك لما جاء القرن الحادي والعشرون ظهرت صرخات أخرى تبين خطورة ذلك. يقول اندريه مالرو: إن القرن الحادي والعشرين إما أن يكون روحانيا أو لا يكون. وخلال البحث وجدت أيضا أن الانتحار لا يقتصر على طبقة دون أخرى، بل هناك شخصيات عالمية كان لها دور في الفكر والفلسفة مثل فريدريش نيتشه العالم النفسي الألماني الذي مات منتحرا. وكذلك الرسام الهولندي المشهور فينسنت فان غوخ الذي تعد بعض لوحاته الأغلى عالميا، حيث انتحر بإطلاق الرصاص على صدره وقال عندها: إن الحزن يدوم للأبد. وغيرهم كثير من المشاهير في مختلف المجالات. في المقابل قد تكون هناك بعض الحالات القليلة هي بسبب أعراض طبية عقلية، ولكن عدد المنتحرين سنويا كبير جدا، ولابد من سبب نفسي قوي يدفع إلى ذلك. نعم تعددت الأسباب كما ذكرت آنفا، ولكني أعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن السبب الرئيس والأهم هو الخواء الروحي. والسبب أن الإنسان تكوّن من مادة وروح، وحين يفقد الجسد ذلك الرابط الروحي أو يبتعد عنه يبدأ بالاضطراب والتخبط. كل البشر من عباقرتهم وفلاسفتهم مهما بلغوا من الذكاء والنبوغ والإنجاز يحتاجون ذلك الرابط، بل مهما بلغت الحضارة من أوج وزخرف تحتاج أيضا إلى ذلك الرابط. إن الحقيقة الكامنة في أعماقنا أن أروحنا ستظل أبدا تبحث عن راحتها فرارا من الضنك والضيق، وتكمن راحتها بإبقاء ذلك الرابط موصولا بالسماء، وصدق الله عز وجل حين قال: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا».