لم يكن كتاب إرنست همنغواي «لمن تقرع الأجراس؟» غائباً عن الأذهان أبداً، على مدى العقود الكثيرة التي مرت منذ صدر للمرة الأولى. ومع هذا، فإن كثراً من القراء الأميركيين، وغير الأميركيين، تدافعوا الى شراء نسخة خلال الجو الحماسي الذي ساد قبل عام ونيف، إبان اشتداد ضراوة الحملة الانتخابية الرئاسية في الولاياتالمتحدة، بين المرشحين جون ماكين وباراك أوباما. وفي خلفية ذلك أن كلاً من هذين قد ذكر الكتاب غير مرة في خطبه. فباراك أوباما أعلن أمام الملأ أن «لمن تقرع الأجراس؟» هو واحد من ثلاثة كتب ألهمته طوال حياته، بينما زايد عليه ماكين بقوله إن كتاب همنغواي هذا هو كتابه المفضل طوال حياته. والحقيقة أن ماكين لم يكن مغالياً في هذا القول، إذ نعرف أنه ذات يوم اختار لكتاب وضعه عنوان «تستحق النضال لأجلها»، وذلك في استعارة واضحة من آخر جملة يتفوه بها روبرت جوردان بطل «لمن تقرع الأجراس؟» قبل الخاتمة. وطبعاً ما كان من شأن هذا كله إلا أن يعيد كتاب همنغواي الى الواجهة. أما الكتاب نفسه فهو، كما نعرف جميعاً، رواية «متخيلة» كتبها همنغواي ونشرها عام 1940، عند بدايات الحرب العالمية الثانية، وبعد الهزيمة التي أحاقت بالجمهور بين الإسبان في صراعهم مع فرانكو، حليف هتلر، خلال الحرب الإسبانية. وهي في شكل أو في آخر اعتبرت منذ ظهورها «رواية الحرب الإسبانية»، حتى وإن كان كثر من النقاد قد نظروا إليها، بالأحرى، على أنها رواية تصور مساهمة أفراد أميركيين في تلك الحرب. وفي شكل أكثر تحديداً، مساهمة إرنست همنغواي نفسه، وقد ظهر في بطولة هذا العمل تحت ملامح روبرت جوردان، المثقف الأميركي الديموقراطي الذي انخرط، مثل ألوف المثقفين الأميركيين والأوروبيين، في صفوف اليسار الجمهوري الإسباني، لمحاربة فرانكو. علماً أن جوردان، حين اختار طرفاً إسبانياً يسارياً، ليعمل ضمن صفوفه، اختار الحزب الشيوعي من دون أن يكون هو نفسه شيوعياً، مثله في هذا، مثل كبار الكتّاب الأجانب، من جورج أورويل، الى أندريه مالرو... أما محور الرواية نفسها، فيدور حول تكليف جوردان، بصفته خبيراً بالمتفجرات، بنسف جسر لمنع مواصلة الفاشيين هجومهم على مدينة سيغوفيا التي كانوا يحاصرونها وكانت هي واحداً من أهم معاقل الجمهوريين. إذاً، انطلاقاً من هذا المحور، بنى همنغواي الرواية في أكثر من 470 صفحة، ليضع فيها أفكاراً كثيرة حول الحرب والموت والحب والصداقة، ولكن كذلك حول الخيانة، نافياً بين الحين والآخر، أن يكون قد تعمد، أصلاً، أن تكون رواية سياسية. والحقيقة أن همنغواي كان محقاً في هذا، حتى وإن كان من الصعب علينا، أن نتصور خلو رواية مثل «لمن تقرع الأجراس؟» من السياسة. ذلك أننا هنا، وما إن ندخل في صلب هذا النص القوي والجميل والقاسي، في الوقت نفسه، سرعان ما نجد أنفسنا أمام رواية مغامرات فلسفية، بل وجودية أيضاً - إنما في معنى يختلف عن وجودية سارتر أو كامو -. ذلك أن، وعلى رغم أن البطل اختار هنا الطرف السياسي الذي ينتمي إليه، من الواضح أن الإنسان هو المحور والأساس. وكذلك، في شكل خاص - وكما هي الحال في أعمال همنغواي الكبرى، التي تشكل «لمن تقرع الأجراس»؟ جزءاً أساسياً منها -، من الواضح أن همنغواي إنما أراد هنا أن يعبر عن أسئلته الخاصة، متجاوزاً ضيق الأفق السياسي. ومن هنا نراه، حتى لا يوفر انتقاداته الواضحة والخفية للفريق الذي يعمل بطله في إطاره: الفريق الشيوعي. ولعل هذا يتجلى أكثر ما يتجلى، في شكل موارب، حين تروى، في صفحات، حكايات عن ممارسات الشيوعيين، واليساريين بعامة، في كل مرة تقع بين أيديهم جماعة ممن يرون أنهم أعداء فاشيون. ومثال على هذا، ما ترويه بيلار، إحدى الشخصيات النسائية الأساسية في الرواية، في الفصل العاشر، عن مجزرة ارتكبها الجمهوريون في بلدة «روندا» عام 1936، حيث ما إن استولوا على البلدة، حتى جمعوا كل اليمينيين المتطرفين، أو من قرروا أنهم كذلك. الغريب في أمر هذه الحكاية هو أن همنغواي ذكر لاحقاً أنها حكاية اخترعها من ألفها الى يائها... ومع هذا، فإن كثراً من النقاد والمؤرخين يؤكدون أن المجزرة حدثت حقاً، وبالتفاصيل نفسها التي رواها الكاتب بها. بل يزيدون، أن عدد الفاشيين الذين قتلوا فيها، ذبحاً على أيدي اليساريين كان 500، فيما جعلهم همنغواي عشرات لا أكثر. والحقيقة ان إمعاناً في ربط الرواية بأحداث تاريخية وحتى بشخصيات تاريخية، سيكشف لنا عن أن معظم ما وصفه همنغواي هنا، كان نابعاً من حقائق ملموسة على الأرض، ما يجعل الرواية في مجملها أشبه برواية تاريخية توثيقية، بما في ذلك ما يتناول منها، شخصية البطل، حيث إضافة الى أن همنغواي رسم ارتباط روبرت جوردان بالحرب ومساهمته فيها انطلاقاً من مساهمته هو الشخصية، نجده قد استقى بعض ملامح ومعيوش هذه الشخصية، أيضاً من روبرت هال مريمان، الذي كان أشبه بزعيم للمناضلين الأميركيين الذين تطوعوا لمجابهة الفاشيين خلال تلك الحرب، كما أنه - أي همنغواي - أخذ الكثير من ملامح شخصية ماريون، زوجة مريمان الحقيقية، ليعطيها الى ماريا حبيبة روبرت في الرواية. ولنضف الى هذا شخصيات تاريخية أخرى كثيرة، تمر في فصول معينة في الرواية، وتكشف لنا نظرة الكاتب الى بعضها، خلفيات مواقف سياسية له، من الصعب العثور عليها في أماكن أخرى: ففي المقام الأول في هذا السياق تطالعنا شخصية أندريه مارتي، وهو مناضل فرنسي حقيقي كان زعيماً للمتطوعين الشيوعيين الفرنسيين... واللافت أن همنغواي يصور مارتي هذا بصورة بالغة السوء، بل يجعل منه، ومن داء الرهاب السيكولوجي الذي يصيبه سبباً في سقوط ضحايا يساريين كثر، لا سيما في صفوف الفوضويين، علماً أن همنغواي يصور الصراعات الدامية بين الشيوعيين والفوضويين في فصول من الكتاب كثيرة. بل إنه، انطلاقاً من هنا، يكاد يقول لنا إن هذه الصراعات، أكثر من قوة الفرانكويين الفاشيين، هي التي ستدمر الجمهوريين وثورتهم في نهاية الأمر. ومن الشخصيات التاريخية الأخرى التي نراها في الرواية: دولوريس ايباريرا، الزعيمة الشيوعية الإسبانية التي كانت تلقب ب «الباسيوناريا»، وخوسيه مياخا، الجنرال الذي قاد الدفاع عن مدريد عام 1936... غير أن هذا كله لا يمكنه أن ينفي أن إرنست همنغواي، إنما كتب هنا واحدة من أكثر الروايات رومنطيقية في القرن العشرين، وأنه - بالتالي - إنما استخدم كل تلك الشخصيات وكل تلك الأحداث ليكتب عملاً روائياً غنياً عميقاً ومميزاً... ونقول هذا ونحن نعرف أن هذه الرواية، بقدر ما وصلت، كنص مكتوب، الى ملايين القراء وأثارت إعجابهم طوال القرن العشرين، عجزت - كلياً أو جزئياً - عن الوصول في جمالها وعمقها الى ملايين آخرين فضلوا، على قراءتها، مشاهدتها وقد حولت حيناً الى فيلم سينمائي (على يد المخرج الهوليوودي سام وود، في العام 1941 - من بطولة غاري كوبر وإنغريد برغمان) وحيناً الى عمل تلفزيوني (مرتين على الأقل: واحدة أميركية من توقيع جون فرانكنهايمر عام 1956، والثانية إنكليزية من إنتاج ال «بي بي سي» عام 1965)، وفي مرة ثالثة الى دراما موسيقية. في شكل أو في آخر كانت هذه الرواية - التي يحوي عنوانها ما لا يقل عن أغنيتين شهيرتين غنت إحداهما فرقة «بي دجيس» والثانية فرقة «ميتاليكا» - العمل الذي أوصل شهرة إرنست همنغواي وشعبيته الى الذروة، وهي، كما أشرنا، وضعت دائماً في صف أعمال صاحبها الكبرى الى جانب «الشمس تشرق ثانية» و «العجوز والبحر» و «عبر النهر ونحو الأشجار»، إضافة الى أنها ستساهم مساهمة أساسية في خلق صورة البطل المغامر التي ارتبطت بها شخصية إرنست همنغواي، المولود عام 1899 في ولاية إلينوي في الولاياتالمتحدة الأميركية، والراحل انتحاراً، يوم 2 تموز (يوليو) عام 1961، وهو بعد في عز عطائه، ولمّا يختم بعد العام الحادي والستين من حياته. [email protected]