كل إنسان يمر بفترة حزن وكآبة، وهو أمر طبيعي من الناحية البشرية، ولكن حين تتصاعد الأزمات على النفس، ويتنامى الفراغ الداخلي فإن الحالة النفسية تتصاعد إلى أشدها، ويمكن للإنسان أن يفقد الأمل نهائيا في أي لحظة. وها نحن نسمع بين الفترة والأخرى عن أسماء مشهورين عالميين يقدمون على الانتحار، ولن تكون الأولى أو الأخيرة، وقد طالعتنا الصحف مؤخرا بخبر انتحار الممثل الكوميدي روبن ويليامز. قد يبدو من الغريب بعض الشيء أن شخصا مثله كان يؤدي أدوارا كوميدية ليرسم البسمة والضحكة في وجوه الناس، ولم يستطع أن يضحك نفسه من الداخل، وتلك دلالة واضحة على أنه ليس كل إنسان ظاهره خفة الدم والضحك يكون منشرحا ومرتاحا من الداخل، بل على العكس قد يضحك في الظاهر ، والألم والحزن يعتصره في الباطن. لعل الأسباب كثيرة ومختلفة لمثل هذه الحالات الشديدة من اليأس التي تؤدي للانتحار. ومنظمة الصحة العالمية قدرت عدد المنتحرين ب 800000 شخص سنويا، أي بمعدل شخص كل 40 ثانية. وهناك توقعات بأن يرتفع العدد إلى مليون ونصف المليون شخص سنويا بحلول عام 2020!!. لست طبيبا نفسيا ولكني أعتقد أن هناك سببا جوهريا واضحا لمثل تلك الحالات ألا وهو الخواء الروحي. الإنسان عندما يمر بلحظات الضعف والأزمات يحتاج إلى ركن قوي شديد يأوي إليه، ولكن حين تكون الحبال مع السماء مقطوعة يشعر بخواء رهيب مؤلم، كأنه كهف موحش بارد يحن فيه إلى النور والدفء. تلك الحبال التي تربطنا مع الله هي التي تملأ الفراغ الداخلي، وهي التي ترسل نبضات السعادة إلى قلوبنا في أحلك الظروف، وفي أشد الأزمات النفسية، تلك يا سادة ويا سيدات السعادة التي يبحث عنها كل فلاسفة الأرض. لقد كان ومازال الفلاسفة عبر العصور يتكلمون ويبحثون عن السعادة، فهل وجدوها حقا؟ وإن وجدوها هل استطاع أحد منهم أن يصفها بكلمات معبرة؟. موضوع السعادة مهما تكرر لا يعتبر معادا ! لأن الحقيقة أن كل ما نفعله في حياتنا هو البحث عن السعادة. وإلا كيف نفسر نهمنا في شراء المنازل أو السيارات، أو البحث عن الاستقرار بالزواج أو حبنا للسفر أو انهماكنا بالعمل، أو تملكنا للأموال والعقارات، بل حتى الأعمال والتكاليف الدينية التي نقوم بها هي إرضاء لله أولا بدون شك، وثانيا نبحث فيها أيضا عن لباس السعادة والراحة النفسية. ودعونا نسمع ماذا يقول الفلاسفة منذ بدأ كبيرهم سقراط بتعريفها بأنها «السمو فوق مطامع الحواس، والتحرر من الراغبات». وعند أفلاطون العاطفي الذي ظل كل عمره يدندن عن المدينة الفاضلة ، فيعرفها «الخير المطلق». وأما الحكيم الصيني كونفوشيوس فيقول: كثيرون يبحثون عن السعادة فيما هي أعلى من الإنسان، وآخرون فيما هو أقل منه، لكن السعادة بطول قامة الإنسان. والعجيب بعد كل هذه الطنطنة والشنشنة كلهم حام حول الحمى ولم يقع فيه، وحقيقة السعادة أبسط من ذلك بكثير وهي بين أيدينا ونحن أزهد الناس فيها، فقد قال سيد البشر عليه الصلاة والسلام : «من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوتُ يومه، فكأنَّما حِيزتْ له الدُّنيا بحذافيرِها». وقافلة المنتحرين لن تتوقف وستظل تحصد كثيرا من الأرواح بحثا عن السعادة المنشودة، وهي لن تُعرف ولن تُحس إلا إذا أبقينا ولو بعضا من الحبال موصولة مع الله، وصدق الله سبحانه وتعالى حين وصف النفس البشرية بذلك الوصف الدقيق المؤلم حين قال: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا».