المظاهرات العراقية كانت منذ عام 2009، وتطورت عام 2011، وتم حرف مساراتها الصراعية، لتكون بمثابة صراع بين منهجية تتبع ولاية الفقيه، ومنهجية ترى ضرورة وجود استقلالية في القرار السياسي بعيدا عن النفوذ الايراني المباشر، اضافة الى ان هذا الانحراف كان بسبب تطور ونضج الحالة المدنية في مناطق جنوبالعراق، فتاريخيا، وبعيدا عن الطائفية، كان الشباب الشيعة الأكثر اقترابا من السياسة والمعارضة السياسية، ولهذا ينتشر الحزب الشيوعي مثلا في المناطق الجنوبية، وقد كانت المرجعية ورجال الدين منذ الستينيات يحرضون ضد الشيوعية باعتبارها ملحدة وعلمانية، وهو العنوان الاتهامي اليومي للاحتجاجات حيث تبارى رجال الدين بوصم قوى الاحتجاج المدني بأنها لا دينية وعلمانية. اللافت للانتباه أن مظاهرات العراق هذه المرة تمتد من بغداد الى البصرة، ومطالبها محاكمة الفساد والفاسدين في الطبقة السياسية، وأيضا عدم رفعها شعارات طائفية في بلد ظلت ايران وقواها تعمل على التعبئة الطائفية فيه يوميا، ولهذا قيل إن هذه المظاهرات عابرة للطائفية، وايضا ولأول مرة وفي الوسط الشيعي العربي تتم المناداة بطلب خروج إيران من العراق، وكف يدها ولعل شعار «ايران برا برا بغداد تبقى حرة» وفي المناطق الجنوبية يؤكد اولا على الشيعة العرب والعراقيين عموما غير طائفيين، وأن الطائفية هي مدخل ايراني. في هذه التظاهرات انكشفت حدة الصراعات داخل حزب الدعوة، وهو خلاف يبدو قديما ايضا، لكنه تضاعف عندما سيطر تيار المالكي المؤمن بولاية الفقيه، ومنذ اعتماد الحزب أحمد الخميني مرجعا له، في تزلف واضح للقيادة الايرانية وولاية الفقيه، وهو ما انكره بعض قادة حزب الدعوة، ورفضوه نهائيا، لكن السطوة والسيطرة الايرانية جعلتا تيار ولاية الفقية الاقوى تأثيرا، وبعد أحداث الانبار والموصل وانكشاف سلبيات العملية السياسية والطائفية، اضطرت ايران لسحب ترشيح نوري المالكي لدورة ثالثة والقبول بحيدر العبادي رئيسا للوزراء من حزب الدعوة. عمليا رئيس الوزراء حيدر العبادي كان الحلقة الاضعف في الحكم العراقي، وعمليا ظل نوري المالكي، وهادي العامري هما الحاكمان الفعليان، وساهم المالكي وضمن خطة ايرانية، في تهميش الجيش العراقي لصالح ميليشيا الحشد الشعبي، وأصبح الحشد سلطة ميدانية تعضده وتدعمه سلطة سياسية وأمنية ومالية، ولهذا اعتمد العبادي على ثلاثة عوامل رئيسة تمثلت أولا في الدعم الذي حصل عليه من تيار حزب الدعوة الرافض لمنهجية المالكي وولاية الفقيه وضرورة ابراز الهوية العراقية، وثانيا دعم المرجعية وبعض القوى الدينية لوجود صراع غير معلن بين هذه المراجع ونوري المالكي الذي اصبح مؤثرا عليها بحكم علاقاته مع طهران، اضافة الى صراع او اختلافات بين هذه المراجع والسياسة الايرانية في العراق وبخاصة بعد تعيين الشهرودي مرجعا للدعوة ووليا للمرشد الايراني في العراق وثالثا الدعم الامريكي لحكومة نوري المالكي. وجاءت الاحتجاجات الشعبية، مفاجئة بحجم قوتها وزخمها واستمراريتها، ولم تملك حكومة العبادي الا ان تستجيب لهذه الاحتجاجات وتعتبرها مصدر قوة لها، مثلما وجدت المرجعية وبعض القوى الدينية انها ولاعتبارات عديدة ليس امامها سوى دعم واحترام مطالب المتظاهرين، وهذا عمليا يعني الاختلاف والاستراتيجية الايرانية في العراق، وهذا الامر شكل نوعا من الحرج والخوف لدى طهران، بأن تؤدي هذه الاحتجاجات عمليا، انهاء نظام المحاصصة الطائفية، ومحاكمة رموز الفساد المقربين من ايران، وتغيير الدستور واعادة النظر بالعملية السياسية. كيف تعاملت طهران مع هذه الاحتجاجات؟ كانت اولا بزيارة قام بها محمد جواد ظريف الى المرجع علي السيستاني، فيها شيء من الدهاء والنفاق السياسي حيث رغبت طهران ان تحصل من المرجع السيستاني على دعم للاتفاق النووي، بينما المرشد خامئني لا يزال يظهر معارضته لبنود الاتفاق، كما ان ظريف أراد ان يرسل رسالة للسيستاني بأن ايران بعد الاتفاق ستبدو مختلفة عنه في السابق وهذا ما التقطته المرجعية في النجف، وأرادت اظهار او إبراز قدر من الاستقلالية، بعدما كانت متهمة بأنها مجرد صدى للتوجيهات الايرانية. بعد هذه الزيارة قام حاكم العراق الفعلي قاسم سليماني وبعد هروب نوري المالكي الى طهران، ومطالبة حيدر العبادي بعودة المالكي فورا او منعه من دخول العراق، هذه التطورات دفعت قاسم سليماني لجمع الائتلاف الشيعي لاجتماع في بغداد، واضعا خطوطا ايرانية حمراء على توجهات العبادي الاصلاحية، وخطا أحمر كبيرا على محاكمة نوري المالكي، او الاستجابة اكثر لمطالب المحتجين، معتبرا اياها انها احتجاجات تدار من قبل السفارة الامريكية، وان المطلوب تحجيمها وتفريقها وتشتيتها. في هذا الاثناء بدأت قوات ميليشيا الحشد الشعبي وعصائب الحق وبعض المحسوبين على الحرس الثوري وفيلق القدس، وبعض القيادات الامنية باستجواب بعض الرموز والنشطاء في التنسيقيات، واغتيال بعض المؤيدين والمؤازرين، واتفق على ان تركب ايران والقوى التابعة لها الموجة بقيادة التظاهرات واختراقها، والعمل على استبدال بعض الوجوه بوجوه أخرى لم تكن في الواجه، وهذا يعني التفافا على مطالب المحتجين، والابقاء على الوضع القائم دون تغيير. في هذه الاثناء بدت ابواق الدعاية الايرانية التمهيد لخطة ايرانية تقضي اولا بتفجير محطات توليد الكهرباء، واستهداف المتظاهرين، واغتيال بعض المراجع، واتهام داعش بالقيام بهذه العمليات عبر تصريحات منسوبة لداعش، ولا مانع من توجيه اتهامات للسعودية، واعادة انتاج الطائفية وحرف مسارات الاحتجاج واعادتها الى المربع الطائفي الاول، لكن ايران وهي تجاهد لتفريق هذه التظاهرات ولو كلفت مزيدا من الدماء من السنة والشيعة ولو اعادت انتاج الفساد، فانها ترى بوضوح ملامح تراجع مشروعها ونفوذها في المنطقة وما يقلقها ان الحراك والاحتجاج جاء في مدن مثل الناصرية والمحمودية وبابل والعمارة والبصرةوبغداد وهي مدن تحت سيطرة الاستخبارات الايرانية.