للدور الإيراني في العراق أهمية كبرى لدى طهران التي تسعى لبسط نفوذها من تغذية الطائفية في العراق. وجاء ظهور داعش ليكون بمثابة نعمة ونقمة على الدولة الفارسية التي تبحث عن دور بطولة في المنطقة وإن قادتها حساباتها لمخاطر على المدى البعيد كما يكشف الباحث الإيراني علي ريزا نادر كبير المحللين في السياسة الدولية بمركز أبحاث RAND. مكاسب قصيرة المدى وجدت طهران في ظهور داعش فرصة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية من تخفيف العزلة الدولية وكسب نقاط في المفاوضات النووية. ولم تعد إيران تلعب في الظل داخل العراق بل أعلن الحرس الثوري مشاركته علانية على الجبهات الأمامية، كما تحول قاسم سليماني -قائد فيلق القدس- بنهاية 2014 إلى بطل بعد أن كانت طهران تنفي وجوده بالعراق. ونشرت صوره بعد تحرير منطقة جرف الصخر وسيطرة 15 ألف مسلح من القوات الطائفية عليها. وفي نوفمبر الماضي احتلت إيران العناوين الرئيسة عندما قصفت طائراتها أهدافاً في ديالى. ويدور الحماس الإيراني للعب دور في الحرب على داعش في فلك المنافسة والتفاهم مع واشنطن على بسط النفوذ في العراق. ويوجد بالعراق 3000 مقاتل أمريكي وهو عدد قابل للازدياد، إضافة إلى المقاتلات الأمريكية. إلا أن طهران تتفوق بتجييشها للميليشيات الطائفية، فضلاً عن سرعة تدخلها. وقد ظهر هذا في الموصل حيث أرسلت إيران خبراء وأسلحة خلال 48 ساعة من سقوط الموصل في يد داعش بينما جاءت الضربات الأمريكية بعد شهرين. وهو ما ثمنه العراقيون وصرح به رئيس الوزراء العبادي في مقابلة تليفزيونية. وترى ايران انها ان تمكنت من بسط نفوذها الإقليمي يمكن لها أن تجعل المجتمع الدولي أكثر مرونة مع ملف العقوبات والمباحثات النووية لا سيما أن دولاً عظمى تتوق لعلاقات اقتصادية مع إيران التي تعتبر مصدراً مهماً للطاقة، غير ان ايران وصلت مراحل السقوط، وبدأت تقدم التنازلات فقط لفك الحصار الاقتصادي عنها، واصبح سلوكها السياسي الاقليمي اكثر اضطرابا مما مضى، في حين ان بوادر الاتفاق تبدو صعبة وقاسية. مخاطر طويلة المدى أدى الدعم الإيراني للميليشيات الطائفية التي ترتكب جرائم عديدة ضد السنة لظهور الدولة الفارسية باعتبارها راعيا للصراعات الطائفية في العراق والمنطقة. ويسود الشك بين دول المنطقة في نوايا إيران خاصة بعد موقفها من الوضع في سوريا ثم اليمن, وتخشى دول المنطقة من مغبة المشاركة مع إيران في التصدي لداعش، لأن هذا من شأنه أن يضعف داعش –وهو هدف مهم- إلا أنه يزيد من قوة إيران وبالتالي ممارساتها الطائفية. وتسعى الدول العربية والاسلامية كالمملكة السعودية وتركيا للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال حماية المكونات السنية، كما تهدد بورقتي الطاقة والتجارة للضغط على طهران وهي مخاطر طويلة المدى يجب أن تضعها إيران موضع الاعتبار. ويرى بعض الإيرانيين أن محاربة التنظيم امتداد ل «الدفاع المقدس» وهو اللقب الذي أطلق على الحرب الإيرانية- العراقية. ولكن طهران هذه المرة مسؤولة بشكل كبير عن ظهور الغريم الجديد، كما أن الدعم القوي للميليشيات العراقية ارتد بتهديدات طويلة المدى للمصالح الإيرانية، فضلاً عن بوادر تشكك ورفض من قبل شيعة العراق لنوايا طهران خاصة بعدما اعلن علي يونسي ان بغداد اصبحت عاصمة للامبراطورية الفارسية. ثأر طائفي للوجود الإيرانيبالعراق بعد نفسي لدى الإيرانيين الذين لم ينسوا الحرب المدمرة التي لم ينتصروا فيها ضد العراق عقب ثورة الخميني. واستمد الحرس الثوري شرعيته الحالية، وتغلغل نفوذه السياسي والاقتصادي من منطلق «دفاعه» عن الثورة خلال الحرب. كما أن عدداً من كبار المسؤولين الإيرانيين تبوؤوا مناصبهم على خلفية تجاربهم خلال حرب العراق. وتعتبر طهران أن سقوط نظام صدام كان بمثابة مكافأة للتضحيات الثورية أثناء الحرب. ويشير الباحث إلى أن السيطرة الشيعية على الحكومة العراقية لا تعبر عن ملالي إيران بالضرورة؛ فالمرجعيات الشيعية العراقية لديها مخاوف من تنامي النفوذ الفارسي في العراق. إلا أن تعالي أصوات الساسة الطائفيين، وحالة عدم الاستقرار، وظهور تنظيم داعش، ساهم في تعزيز الدور الايراني في العراق، الامر الذي يؤكد وجود شبهة كبيرة بين نشوء داعش والطموحات الايرانية في المنطقة. ويقع جزء كبير من اللوم على القيادة العراقية حيث عمد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى إذكاء نار الطائفية، وقام بتحوبل القوات الخاصة العراقية إلى قوات أمن طائفية. وفي الفترة بين 2010 و2014 أصبح التمثيل الشيعي بها 95% بعد أن كان 45%. بالإضافة إلى تسليطه الميليشيات مثل عصائب اهل الحق ضد خصومه، وكان يسمح لهم بارتداء زي عسكري لإخفاء أنشطتهم. وفقد المالكي دعم عدد من العشائر السنية على خلفية تلك الاعتداءات الطائفية ومنها الاعتداء على المتظاهرين في الحويجة في أبريل 2013 ما أسفر عن مصرع عدد كبير منهم. طرق التغلغل منذ سقوط صدام اعتمدت إيران ثلاثة طرق لبسط نفوذها في العراق: الأول: من خلال تعزيز التأثير الديني. والثاني: تنصيب إيران نفسها المحكم الرئيس بين «الفرقاء» السياسيين. والثالث: تبني العنف كوسيلة للضغط على الأطراف السياسية المختلفة. التأثير الديني تلعب الروابط الدينية بين إيرانوالعراق دوراً مؤثراً في الأمن القومي للدولة الفارسية؛ وتعمد طهران إلى تعزيز شعور العراقيين بارتباطهم بها وهو الأمر الذي يسهل تنفيذهم الأجندة الإيرانية من منظور ديني. إلا أن التأثير الديني لإيران في العراق ليس بالقوة المأمولة؛ حيث تخطط سياسة طهران إلى جذب شيعة العراق في مدار إيران بعيداً عن تأثير علماء النجف البارزين مثل السيستاني الذي ينتقد ولاية الفقيه ويدعو لحكومة تعددية على أساس ديني. وعلى الرغم من أن المراقد الشيعية في العراق تجتذب 40 الف زائر إيراني شهرياً إلا أن العراقيين يخشون من التأثير الديني والسياسي للدولة الفارسية. وأظهر استطلاع رأي في 2007 أن 62% من شيعة العراق يرون أن حكومة طهران تغذي العنف الطائفي في بلادهم، وفي 2010 عبر 48% من شيعة العراق عن رأيهم السلبي في العلاقات بين القيادات السياسية لبلادهم وبين طهران مقابل 18% باركوا تلك الخطوات. وانتقد عدد من العراقيين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحزب الدعوة لتأييدهم الخميني في حرب الخليج الأولى. وفي 2007 قام المجلس بتغيير اسمه إلى المجلس الأعلي الإسلامي العراقي، كما عمد إلى إظهار الولاء للسيستاني لينال شرعية محلية. ويعتبر تأثير السيستاني مقلقاً لإيران ففي 2006 اعتبر 80% من شيعة العراق أن السيستاني هو زعيمهم الديني وتم إمداده ب 700 مليون دولار من أموال الخمس لدعمه. وفي 2011 قدم السيستاني مصاريف 65 ألف طالب عراقي في الحوزات الإيرانية. ويعد السيستاني ناشطاً في الحياة السياسية، ولم يمثل انتقاده لولاية الفقيه تهديداً للنفوذ الفارسي في بلاده فحسب بل في الداخل الإيراني. وفي المقابل قامت طهران ببناء مدارس دينية ومساجد ومشاف في المراكز السكانية الشيعية بالعراق. وسعت إيران للحد من نفوذ السيستاني من خلال تلميع علماء أقل شعبية مثل طبطبائي, كما تعد هاشمي شهرودي –المقرب من خامنئي- لزعامة النجف خلفاً للسيستاني. ومن المنتظر أن تتحول النجف إلى مركز ديني فعال تحت نفوذ قم حال نجاح هذا الترتيب. وقد افتتح شهرودي مكتباً في النجف ليكون أول مرجعية دينية إيرانية مقربة من المرشد تنتقل من قم إلى النجف، ويمهد لذلك بإرسال عدد كبير من تلاميذه إلى النجف ليكونوا في استقباله. كما قام بدفع مبالغ أكبر للطلاب العراقيين في إيران. صانع الملوك تحت هذا التوصيف يرصد الباحث الايراني الطريقة الثانية التي تعمل من خلالها طهران على تعزيز نفوذها بالعراق. وتتلخص في أن إيران تدعم كيانات سياسية شيعية مختلفة ليست قوية ولا تملك القدرة على الحسم، بحيث تصل إلى مراكز مؤثرة في القرار السياسي، على ألا تصبح أي منها قوة ضاربة. وبهذا يكون النفوذ الإيراني قوياً بين مختلف الأطياف: الحكومية وغير الحكومية. وقد نجحت طهران في إقناع الشيعة بخوض الانتخابات على قوائم موحدة لضمان قوتهم الديموغرافية، وهذه القوائم تتصدرها مجموعات مقربة لإيران. على سبيل المثال في 2005 فاز الائتلاف العراقي الموحد الذي ضم أحزابا وحركات شيعية لها تاريخ في تلقي الدعم الإيراني، وقد ادى الائتلاف مهمة صياغة دستور يرضي طهران بنجاح. ويقوم قاسم سليماني بدور المحكم السياسي بين الأحزاب الشيعية المختلفة، كما يدير كل الأنشطة الإيرانية في العراق سواء العسكرية أو السياسية أو أنشطة القوة الناعمة. وقد لعب دوراً بارزاً في أزمة اختيار أول رئيس وزراء عراقي في 2006، وأسفر تدخله عن اختيار المالكي. كما نجح في 2008 في التوسط لوقف الاقتتال بين التيار الصدري وحكومة بغداد. وبدا النفوذ الإيراني واضحاً بعد انتخابات 2010 التي فاز فيها ائتلاف اياد علاوي إلا أن المعارضة الشيعية المدعومة من طهران حالت دون توليه رئاسة الوزراء. وبمرور الوقت لم يعد سليماني مجرد المحكم الإيراني الذي يفصل بين الأحزاب الشيعية بل تحول إلى مراقب لأداء الحكومات العراقية المختلفة. دعم إيران للميليشيات بالتوازي مع الدعم السياسي، تقوم طهران بدعم وتسليح بل وتكوين ميليشيات شيعية في العراق للضغط على الساسة لخدمة المصالح الإيرانية، فهذه الميليشيات مرتبطة بفيلق القدس، وليس للحكومة سيطرة عليها، لا بل ان الشخصيات الدينية لا تملك القدرة في التأثير عليها، لان التمويل والتدريب والدعم يأتي من ايران، كما ان ايران تعمل على الا تلتقي هذه الميليشيات والاحزاب والقيادات والا تتوحد، بل تظل الحاجة لطهران دائمة. ولم تتوافر في ميليشيا واحدة كل متطلبات إيران؛ فيلق بدر منخرط في السياسة، والصدريون يمتازون بالاستقلالية التي تصعب من السيطرة عليها. ووجدت طهران ضالتها في الميليشيات الصغيرة التي أطلقت عليها أمريكا «المجموعات الخاصة» حيث إنها أكثر ولاءً لإيران ومنها عصائب اهل الحق، وكتائب حزب الله. وتعمل في العراق ميليشيا طائفية منها عدد كبير أنشأته إيران عقب 2003. وكان فيلق القدس يقوم بتسليح المجموعات الخاصة بأسلحة متطورة. ووفرت إيران تدريب آلاف العراقيين على أراضيها في تدريبات تستغرق 20 يوماً في المتوسط. وكان المتدربون يتلقون دروساً دينية تعزز ولاءهم لإيران. ويقوم الرعيل الأول من المتدربين بتدريب آلاف العراقيين الذين استجابوا لفتوى السيستاني بمحاربة داعش. وتفضل الميليشيات التدريب على يد كتائب حزب الله وليس الحرس الثوري وذلك بسبب اللغة، وبسبب العنجهية الفارسية في التعامل الدوني معهم. ولا تشجع إيران على توحيد الميليشيات حتى لا تخرج من تحت جناح الدولة الفارسية، وفي الوقت ذاته ترى في إضعاف الميليشيات تقوية لحكومة بغداد المركزية، وهو ما يشكل تحدياً طويل المدى لطهران.