منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بات حضور السياسة الأمريكية بالمسرح الدولي جليا ومؤثرا، ولم يعد بالإمكان تجاهل تأثير تلك السياسات على الأوضاع في المنطقة العربية. لقد تقاسمت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي لعدة عقود، الهيمنة على صناعة القرارات الأممية، وكان الأساس في ذلك هو امتلاك القوتين للسلاح النووي، إضافة إلى ترسانة عسكرية متينة، لا تضاهيها أية قوة أخرى. ومنذ نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، أصبح عصر القوة، ملكا خالصا للولايات المتحدة، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، في أوروبا الشرقية، وانتهاء الحرب الباردة. وكان لذلك اسقاطاته المباشرة على الواقع العربي، والعالم بأسره. لكن عودة روسيا بوتين بقوة إلى المسرح الدولي، والنمو الكاسح للاقتصاد الصيني، أنهيا مرحلة الأحادية القطبية، وبدأت مجددا ملامح نظام دولي جديد، متعدد الأقطاب. لكن الولاياتالمتحدة، رغم هذه التحولات، تظل القوة الأكثر تأثيرا في صناعة السياسات الدولية، وعلى هذا الأساس يأتي اهتمامنا بالانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016. وابتداء يجدر التذكير، إلى تفرد حزبين رئيسيين بالولاياتالمتحدة على قيادة البلاد. الحزب الجمهوري ويمثل مصالح الكارتلات النفطية والمصارف، والمؤسسات الصناعية الكبرى. والحزب الديمقراطي، ويمثل الطبقة المتوسطة، ويحظى بتأييد من أجهزة الإعلام، بمختلف تشكيلاتها، والمؤسسات الاقتصادية الصغيرة، وأساتذة الجامعات، والفنانين ورجال الفكر. وطبيعي أن تكون البرامج السياسية للمرشحين عن الحزبين، سواء كانت للكونجرس، أو لسدة الرئاسة، معبرة عن مصالح القوى الاجتماعية التابعة لأي من الحزبين. البرنامج الانتخابي الذي يطرحه من يتقدم للترشيح في الانتخابات الرئاسية، لن يكتب له النجاح، إلا إذا كان معبرا بصدق عن مصالح ناخبيه. فالمرشح يحتاج إلى مئات الملايين من الدولارات لانجاح حملته الانتخابية، تقدم له من القوى التي تتبنى برنامجه الانتخابي. بمعنى آخر، يغدو الرئيس وكأنه مجرد مقاول، يتعهد بتنفيذ مشاريع لجهة محددة، ونجاحه مرتبط إلى حد كبير بتنفيذ تلك المشاريع. والمرشح إضافة إلى ذلك، بحاجة إلى أصوات الناخبين، الذين لن يمنحوه أصواتهم، ما لم يجد برنامجه الانتخابي، قبولا لديهم، بمعنى تمثيله لمصالحهم الخاصة. تاريخيا ارتبط نجاح المرشح للرئاسة الأمريكية، ببرنامجه الاقتصادي، وليس البرنامج السياسي. فدافع الضرائب الأمريكي يهتم في المبتدأ والخبر، بما سوف يحصل عليه جراء انتخاب هذا المرشح أو ذاك من مكاسب، ولا يهتم بالسياسة، إلا في حالات الأزمات الكونية الكبرى، التي تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية، ضالعة مباشرة فيها، كالحرب الكورية، وأزمة الصواريخ الكوبية، أو حرب فيتنام، والصراع العربي- الصهيوني، في حالة الحرب، وما إلى ذلك. أما القضايا السياسية الأخرى، فليست في سلم أولويات الناخب الأمريكي. مزاج الناخب الأمريكي، تجاه البرنامج الاقتصادي للمرشح الرئاسي، هو أيضا موضع جدل، وليس موضع إجماع. فما دام هناك حزبان، يمثلان جهات اجتماعية مختلفة، فطبيعي أن تتحلق كل فئة اجتماعية باستمرار، نحو البرنامج الذي يمثل مصالحها. إن الذي يحسم نتائج الانتخابات، هو الكتلة الصامتة، التي لا تنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك. الكتلة الصامتة، تمثل أغلبية الشعب الأمريكي، وهذه الكتلة لا تمنح أصواتها الانتخابية على أساس حزبي، بل على أساس مصلحتها في برنامج أحد الحزبين. ولذلك فهي تنتقل في تأييدها من برنامج الحزب الجمهوري إلى الحزب الديمقراطي، والعكس صحيح، بناء على المتغيرات الاقتصادية التي تجري حولها. وما يحكمها في ذلك هو مدى مواءمة الدورة الاقتصادية لمصالحها. والمعادلة دائما تكمن في رغبتها التخلص من الكساد أو التضخم، وهذه المعادلة هي التي تقرر أي من الحزبين ستكون حظوظه أوفر في الوصول إلى البيت الأبيض. وإذن فإن الطريق الواضح والأسهل، في القراءة الاستشرافية، من أجل معرفة من سيصل من الحزبين لسدة الرئاسة، يكمن أولا وأخيرا، في معرفة أين يقف الاقتصاد الأمريكي الآن. فالوضع الاقتصادي، كان دائما ولا يزال، هو المفتاح لمعرفة توجهات الشعب الأمريكي، من مواصفات الرئيس المنتخب. وبمعنى آخر، ولكي تكون قراءتنا أكثر وضوحا، فإن البوصلة التي تحدد من أي من الحزبين الرئيسيين، سينتخب الرئيس القادم، خلاصتها، أنه كلما حدث تضخم كبير في الاقتصاد، أمست الحاجة ملحة لوصول الجمهوريين إلى سدة الرئاسة، وكلما تضاعف الكساد الاقتصادي، وتسبب في معاناة غالبية الأمريكيين، كلما غدت الأبواب مفتوحة للديموقراطيين للوصول إلى سدة الرئاسة. حالة الانتقال من الكساد إلى التضخم، أو من التضخم إلى الكساد، لا يمكن تحديد مداها زمنيا. فأحيانا تستغرق دورة رئاسية واحدة، وأحيانا تستغرق دورتين أو ثلاثا، يحكمها في ذلك ظروف عدة، قد تتعدى حدود التفاعلات الاقتصادية الداخلية، إلى ما هو أعم من ذلك بكثير. والتاريخ الأمريكي الحديث، حافل بأمثلة عديدة، لتأكيد هذا الاستنتاج. فإذا ما قمنا بمراجعة للانتخابات الأمريكية، خلال العقود الخمسة الأخيرة، سيتضح لنا أن من يصل إلى الرئاسة بعد حالة التضخم الحاد سيكون جمهوريا وعكس ذلك يعني وصول ديمقراطي للسلطة. لقد تسلم الرئيس ريتشارد نيكسون، عام 1969، بعد انتهاء فترة الرئيس الديموقراطي ليندون جونسون، وفشل الديمقراطيون في اكتساب ثقة الناخبين لدورة رئاسية جديدة. واستمرت حقبة الجمهوريين لدورتين رئاسيتين، سقط خلالها نيكسون بفعل فضيحة واتر جيت عام 1974م. تسلم الرئاسة بعده، الجمهوري جيرالد فورد، الذي يعد من الرؤساء الأمريكيين القلائل، الذين وصلوا إلى سدة الحكم من غير انتخاب. أدت الحرب الفيتنامية، إلى خسائر اقتصادية كبيرة للأمريكيين، رافقها سقوط أكثر من خمسين ألف قتيل عدا عن مئات الآلاف من الجرحى والخسائر في المعدات. وبلغ الكساد مستوى عاليا في السنوات الأخيرة للرئيس فورد. ولا شك أن الوضع الاقتصادي الأمريكي المتردي آنذاك، كان من أسباب انتخاب الديمقراطي، جيمي كارتر لسدة الرئاسة. عانى كارتر منذ أيامه الأولى، من نتائج الطفرة الكبيرة في أسعار النفط، والتي تسبب فيها تضامن الدول العربية المصدرة للنفط مع مصر وسوريا، في حرب أكتوبر عام 1973م، والتي انعكست نتائجها بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي. وجاء احتجاز الرهائن الأمريكيين، من قبل الحرس الثوري الإيراني، في الأيام الأولى لانتصار الثورة، ليشكل ضربة قاصمة لحظوظه، في الحملة الانتخابية، للدورة الرئاسية الثانية. وصل الجمهوري القادم من كاليفورنيا، رونالد ريجان لسدة الرئاسة، في ظل تضخم اقتصادي كبير، فكان أن اتخذ قرارات قاسية، للحد من التضخم، عانت منها الطبقتان الدنيا والمتوسطة. ولكن الدورة الاقتصادية للكساد أخذت ثلاث دورات رئاسية، اثنتان منها، للرئيس ريجان والثالثة لجورج بوش الأب. وكان سقوط الأخير، بسبب فشل السياسات الاقتصادية، ولم يشفع له أنه احتل بنما، وخاض حربا انتصر فيها ضد العراق، وأنه الرئيس الذي دشن تربع الولاياتالمتحدة، كقطب أوحد في العالم. وكان طبيعيا، بعد الكساد الحاد، أن يعاود الديمقراطيون تسلم سدة الرئاسة، فيصل إليها بل كلينتون، الذي جاء ببرنامج اقتصادي متين، مكن الأمريكيين من الخروج بسرعة من الأزمة الاقتصادية. وتسلم الحكم لدورتين رئاسيتين متتاليتين. واعتبر من أنجح رؤساء أمريكا، على الرغم من فضيحة ارتباطه بطالبة متدربة في القصر الرئاسي. لكن دورة التضخم اكتملت في عهده. عاود الجمهوريون سيطرتهم على سدة الرئاسة لدورتين متكاملتين، أمسى فيها جورج بوش الإبن رئيسا للولايات المتحدة. وكانت بالنسبة للعرب من أحلك الحقب في التاريخ الأمريكي. ففي عهده وقف خلفه المحافظون الجدد، وطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي سينبثق من رحم الفوضى الخلاقة. وجرى احتلال أفغانستانوالعراق، وبدأت المنطقة بأسرها تتهيأ لانهيارات كبرى. وعلى الصعيد الاقتصادي اتسمت سياسات جورج بوش الابن بفشل ذريع، حيث شهدت أيامه الأخيرة، بروز أزمة الرهن العقاري، التي تحولت لاحقا إلى أزمة اقتصادية عالمية، لا نزال نعاني من تبعاتها، حتى يومنا هذا. تسلم الديموقراطي باراك أوباما سدة الرئاسة لدورتين متعاقبتين، ورغم انتهاجه لسياسات اقتصادية أعادت الاعتبار للطبقة المتوسطة، وأسهمت في إيقاف حالة الانهيار بالاقتصاد العالمي، فإن الأزمة لا تزال مستمرة، وبحاجة إلى مزيد من جرعات برامج الحزب الديمقراطي، التي تعتمد على تصعيد الضرائب، وتقوية الطبقة المتوسطة، وتحقيق دولة الرفاه، ودعم الضمان الاجتماعي، وزيادة عدد الموظفين، وعمل دؤوب على الحد من معدلات الجريمة. الاقتصاد الأمريكي، ومعه الاقتصاد العالمي، لا يحتمل عودة الجمهوريين إلى السلطة في الانتخابات القادمة. فأمامنا أزمات اقتصادية حادة، في اليونان وأسبانيا والبرتغال، وسلوفاكيا وإيرلندا، فضلا عن عدد كبير من بلدان العالم الثالث، التي يعيش الملايين من أبنائها تحت حد الفقر. يضاف إلى ذلك، أن دورة التضخم الاقتصادي بالولاياتالمتحدةالأمريكية، لم تبلغ ذروتها بعد. وهي بحاجة لكي تكتمل، لدورة رئاسية أخرى، على الأقل. وصول الجمهوريين لسدة الحكم، في الدورة المقبلة، معناه انخفاض للضرائب، وتقليل لاستحقاقات الغالبية من الأمريكيين، وطرد مئات الألوف من وظائفهم، واستنزاف أكبر لدافعي الضرائب لصالح، كارتلات السلاح. والنتيجة ستكون عودة ارتفاع معدلات الجريمة، وتدني قطاعي الصحة والتعليم، وإقفال ملايين المؤسسات الصغيرة. لكل هذه الأسباب، لا يتوقع وصول جمهوري لسدة الحكم بالدورة الرئاسية القادمة. وما يلوح حتى الآن هو أن الرئاسة ستكون من نصيب الديمقراطيين، والأغلب أن الوصول إلى البيت الأبيض سيكون من نصيب إما نائب الرئيس الحالي جوزيف بايدن أو من نصيب وزيرة الخارجية سابقا، هيلاري كلينتون، أو مناصفة بينهما ما لم تحدث مفاجآت تغير هذا التوقع، لكن هناك شبه استحالة لعودة الجمهوريين. ويبقى علينا تقديم قراءة استشرافية للسياسات الأمريكية المرتقبة، وبشكل خاص ما يتعلق منها بأمننا القومي ومصالحنا الوطنية.