ابكلمات أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل آنذاك ستمنح تلك الخطوة "مواطني إسرائيل أقصى مستوى من الأمن". وقال متفائلون غيره: إنها ستحيل غزة إلى هونج كونج الشرق الأوسط. بعد عشر سنوات من انسحاب إسرائيل من جانب واحد من قطاع غزة وسحب نحو 8500 مستوطن يهودي من القطاع مازالت النتائج التي خلفها "فك الارتباط" في أغسطس / آب عام 2005 سببا في نقاش غاضب داخل المجتمع الإسرائيلي. أما في غزة، فلا يوجد ما يدعو لنقاش حول الموضوع. فقد كانت السنوات العشر الأخيرة كارثة كبرى شهد خلالها سكان القطاع البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة حربا بين الفصائل الفلسطينية وأربعة حروب مع إسرائيل سقط فيها أكثر من 4000 قتيل من أهل غزة ودمرت فيها عشرات الآلاف من البيوت. وبفعل حصار تفرضه إسرائيل ومصر لا يمكن لسكان القطاع استيراد الكثير من مواد البناء الأساسية لإعادة بناء ما دمرته الحروب. ولم تعد إسرائيل تصدر تصاريح عمل لأهل القطاع ولا تحصل إلا قلة ضئيلة على إذن بالخروج من القطاع الذي يزداد فقراً على فقر بينما يتكدس الباقون في منطقة تقل مساحتها عن نصف مساحة مدينة نيويورك. ويقول البنك الدولي: إن غزة تمثل الآن أسوأ اقتصادات العالم أداء وبها أعلى معدل بطالة في العالم إذ يبلغ 43 في المائة ويمثل من هم في سن 20-24 عاما نسبة 68 في المائة بين العاطلين. ومنذ عام 1994 انخفض نصيب الفرد من الدخل بما يقرب من الثلث. أما قطاع الصناعة الذي كانت الآمال معقودة عليه في تحقيق الانتعاش الاقتصادي فقد انكمش بنسبة 60 في المائة. قال علي موسى (49 عاما)، ويعمل سائق سيارة أجرة في غزة: "اليهود رحلوا عن غزة ودمروها في الحروب حربا بعد حرب". وأضاف موسى، الذي ظل على مدى عشر سنوات، يعمل عامل بناء في ورش إسرائيل، قبل توقف صدور تصاريح العمل: "هم يتحكمون في الحدود والبحر والسماء. فهل فعلا أنهوا الاحتلال؟ لا." غير أن إدراك الإسرائيليين للانسحاب باعتباره كارثة يتزايد إذ تساقطت على إسرائيل آلاف الصواريخ المنطلقة من غزة منذ 2005 وأصبح التوصل لاتفاق سلام مع الفلسطينيين أبعد منالا. ولخص الباحث شموئيل ايفن بمعهد دراسات الأمن الوطني الوضع في بحث نشره، الشهر الماضي، بعد عشر سنوات من فك الارتباط بقوله: "الفجوة بين الطموحات والنتائج واسعة". وكتب يقول: إن فك الارتباط "خلق واقعا جديدا أسهم في سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وزيادة حادة في تهريب السلاح وتقوية (المقاومة) وما نتج عن ذلك من دورة التصعيد، يبدو أن أغلب الأحداث الأمنية في الجنوب خلال السنوات العشر الماضية كانت نتيجة لفك الارتباط". وبعد أقل من خمسة أشهر من الانسحاب، أصيب شارون وهو في السادسة والسبعين من العمر، بجلطة ودخل في غيبوبة، فغاب عن سدة الحكم، وتوفي بعد ثمانية أعوام دون أن يسترد وعيه فلم يعلم بعواقب مبادرته. كان شارون يؤمن بأن فك الارتباط سيحدث تغييرا جوهريا في أمن إسرائيل ونظرة العالم الخارجي لبلاده ويؤذن بعصر يمكن فيه مبادلة الأرض بالسلام مع إمكانية تكرار هذه العملية في الضفة الغربيةالمحتلة. غير أنه بعد أربعة أشهر من الانسحاب فازت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية. وبعد ذلك ببضعة أشهر اختطف مقاتلو حماس جنديا إسرائيليا على حدود غزة، فشنت إسرائيل حربا لا هوادة فيها على القطاع، ورد رجال المقاومة بمئات الصواريخ. وبحلول صيف 2007، حققت حماس نصرا في حرب أهلية مع الجناح المسلح لحركة فتح المنافسة ودانت لها السيطرة الكاملة على القطاع. واستمر إطلاق قذائف المورتر والصواريخ على إسرائيل طوال 2008 ما أدى إلى حرب أخرى في ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني 2009، سقط فيها نحو 1200 فلسطيني و13 إسرائيليا قتلى فيما كان يمثل أسوأ قتال في المنطقة منذ عام 1967. وأعقبت ذلك حرب أخرى عام 2012 وتلتها حرب رابعة في العام الماضي كانت أسوأها جميعا من حيث عدد القتلى إذ سقط فيها 2200 فلسطيني و73 إسرائيليا قتلى. ويتوقع جنرالات إسرائيل المزيد من إراقة الدماء إذ يتحدثون عن ضرورة "قص العشب" في غزة كل بضعة أعوام. وخلال أيام الانسحاب، أظهرت استطلاعات الرأي أن نحو نصف الإسرائيليين يؤيدونه. غير أن استطلاعا أجراه مركز بيجن السادات للدراسات الاستراتيجية في الآونة الأخيرة، أظهر أن 63 في المائة يعتقدون الآن أنه كان خطأ. ويعارض ما يقرب من النصف الآن أي انسحاب من الضفة الغربية. وفي البداية، انضم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو الذي كان وزيرا للمالية في حكومة شارون لمجلس الوزراء في الموافقة على فك الارتباط. غير أنه استقال عشية الانسحاب ووضع بذلك أساس عودته لفترة ثانية رئيسا للوزراء عام 2009. بل إن اسحق هرتزوج زعيم المعارضة الحالي الذي يمثل يسار الوسط والذي أيد الانسحاب قبل عشر سنوات، أصبح يرى فيه مصدرا للمشاكل. فهو يقول: إن الانسحاب كان الخطوة السليمة من الناحية السكانية إلا أنه قال في مؤتمر للتيار اليميني الشهر الماضي: إن "فك الارتباط كان خطأ ولا شك من منظور أمني". وأضاف: "فشلنا في تقييمنا أن غزة بعد الانسحاب ستصبح هونج كونج الشرق الأوسط .. فبدلا من ذلك أصبحت قاعدة كبيرة للصواريخ". وكثيرا ما تبث على شاشات التلفزيون لقطات لمستوطنين غاضبين يجرهم جنود إسرائيليون. ومازال نحو 350 أسرة من المستوطنين السابقين في غزة دون سكن دائم إذ يعيش أفرادها في بيوت مؤقتة خارج القطاع. ورغم حصول هذه الأسر على تعويضات سخية بلغت ما يصل إلى مليوني شيقل (500 ألف دولار) للأسر الكبيرة، فإن لها صوتا عاليا في انتقاد قرار شارون. كان فك الارتباط نفسه عملية باهظة الكلفة، فقد بلغت التكلفة نحو 11 مليار شيقل (ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار). لكن شارون أصر أنه سيكون له فوائد اقتصادية لإسرائيل في الأجل الطويل إذ سيحسن صورتها وسيجذب الاستثمارات والنشاط التجاري. وفي هذه النقطة من السهل إثبات صحة وجهة نظر شارون. فرغم أنه من المستحيل قياس الأثر الاقتصادي المباشر للانسحاب لا مجال لإنكار أن الاقتصاد الاسرائيلي الذي كان راكدا فيما سبق شهد ازدهارا منذ إخراج المستوطنين من غزة. كذلك فإن تحركات السلام في عام الانسحاب 2005 وضعت نهاية "للانتفاضة الثانية" التي استمرت خمس سنوات انخفض خلالها نصيب الفرد الاسرائيلي من الدخل من 20900 دولار عام 2000 إلى 20376 دولارا عام 2005 وفقا لبيانات البنك الدولي. ومنذ ذلك الحين تضاعف الناتج المحلي الاجمالي الإسرائيلي وارتفع نصيب الفرد من الدخل بنسبة 76 في المئة إلى 36050 دولارا اليوم. وأيا كان الحكم على الانسحاب من غزة فلا توجد أي فرصة فعليا أن تكرره اسرائيل باتخاذ خطوة مماثلة من جانب واحد في الضفة الغربية، حيث يعيش 400 ألف مستوطن - أي عدد يزيد 50 مرة على عدد المستوطنين الذين انسحبوا من غزة - بين 2.3 مليون فلسطيني. ويعيش أغلب مستوطني الضفة الغربية في تجمعات سكنية كبيرة قرب الخط الأخضر الذي يميز الحدود بين الأراضي المحتلة عام 1967 وتلك الحتلة عام 1948. ورغم أن كل المستوطنات تعتبر غير قانونية بموجب القانون الدولي فإن اسرائيل تتوقع الاحتفاظ بتلك الكتل السكنية في أي اتفاق نهائي للسلام. وخارج هذه التجمعات يعيش عدد يقدر بنحو 80 ألف مستوطن في الضفة الغربية، كثيرون منهم تربطهم صلات قوية بالحكومة من خلال حزب البيت اليهودي القومي المتطرف. ومن المحتمل أن يؤدي سحبهم من الضفة الغربية إلى تمرد دون وجود أي ضمانة بتحقيق مزيد من الاستقرار مع الفلسطينيين. ويقول الباحث ايفن من معهد دراسات الأمن الوطني: إن مفتاح حل هذه المشكلة يتمثل في التوصل إلى اتفاق أولا. فقد كتب يقول: "الأسلوب الصحيح لتحقيق تسوية إقليمية هو التوصل لاتفاق مستقر يتماشى مع أهداف إسرائيل في الأجل الطويل." وأضاف أنه إذا ما تم التوصل لاتفاق سلام فإن على إسرائيل أن تسلم مستوطناتها للفلسطينيين بدلا من تدميرها مثلما فعلت ذلك في قطاع غزة قبل عشر سنوات.