إن كثيرا من القضايا المثارة اليوم في الساحة الفكرية الوطنية خاصة والإسلامية عامة ناتجة عن اختلاط كبير في المفاهيم واحتدام المعارك الوهمية بين فئات من العلماء والمفكرين والمثقفين من أبناء الوطن، نتيجة لما تعانيه هذه الفئات من مشكلات في الرؤية الكلية وفي مناهج الفكر والنظر، وفي فهم النصوص وتنزيلها على الواقع. وتبدو مظاهر هذا الخلل واضحة بصورة عامة في ثقافة أبناء الوطن والأمة عامة في النظرة الجزئية، وأحادية المعرفة والفهم الجامد والحرفي للنصّ، وضعف الضبط المنهجي في علاقات الأولويات والمبادئ العليا والمنطلقات الأساسية بالتفاصيل والأحداث في واقع الأمة وواقع الأوطان، ومن ثم يجري تشويه العقلية العلمية والممارسات السلوكية في الحياة. والجدير بالعلماء والمفكرين والمثقفين على مستوى الوطن خاصة والأمة عامة مواجهة هذه الإشكالية بصراحة علمية كاملة، وإلا سوف يظل الحوار الفكري يدور في حلقات مفرغة، ولن يغير ذلك شيئا، بل سيكرس ذلك المزيد من التناقض والاستقطاب بين مثقفي الأمة ومفكريها، بين تقليدي وعصري، وديني ومدني ونحو ذلك من المتقابلات. وستظل الأمة أضعف ممزقة مريضة بانشغال هؤلاء العلماء والمثقفين والمفكرين في صراع عبثي عقيم لا يحقق إلا المزيد من الانقسام والضعف. إن الحساسية من توسع السيطرة المادية والثقافية الغربية تشكل عند كثير من المؤسسات والأحزاب الدينية مخاوف كبيرة، وبحكم ضعف القدرة على مواجهتها أصبح السائد في خطابها طابع الترهيب والهجوم على الخطاب المدني بوصفه مستغربا، وتولد عن ذلك عدم اقتناع ذوي الرؤية المدنية بمنهجية الخطاب الديني المتوجسة ومقولاته حتى وصفه البعض بالتخلف والرجعية. ولقد أدى هذا التصادم إلى إرهاب فكري في كثير من الأحيان واستقطاب هدّام بالجملة، حتى وقف الجاهل في الخطاب المدني موقفا سلبيا من الحضارة الإسلامية وتاريخها بين العداء واللامبالاة. كما وقف الجاهل في الخطاب الديني - في الوقت نفسه - موقفا سلبيا من الحضارة الإنسانية المعاصرة بين العداء واللامبالاة بما وصلت إليه من إنجازات ومعارف على المستوى الإنساني، خوفا على الدين وتراثه من الاستسلام للمستورد للعلوم الإنسانية والعقلية. لقد أصبح الوطن والأمة - بذلك التجاذب - يتجاذبها اتجاه ديني حرفي تقليدي جامد عاجز، يقابله اتجاه منفلت عن حقائق حضارة الإسلام ولا يلتفت لشيء منها، فقصور هذين الاتجاهين وتعارضهما وصراعهما مؤسس في كثير من الجوانب على الخوف والعجز والجهل. إن الواجب على العقلاء ابتداء نزع فتيل الإرهاب الفكري من خطاب كل طرف، ثم التحرك لإزالة العجز والجهل الواقع من أحادية المعرفة في جوانب فكر المتعارضين بفتح باب الحوار وإعمال الفكر في القضايا المهمة في الوطن وفي الأمة لمواجهة تحدياتهما، ليحل محل التصادم التعاون، لتصحيح وبناء المشروع الحضاري لوطن هو قبلة الأمة، على البرهان وقيم العدل والحق والخير والتكافل والسلام بأداتي العلم والعقل بإتقان وإحسان، فذلك مطلب صادق لكل مخلص من أبناء الأمة وهدف يعلو على الأنساب وكل انتساب. فمطلب المدني الإنساني لا يتعارض في الحقيقة مع المطلب الديني، لكنهما ينطلقان في الحوار على أسس غير منهجية، ومنطلقات وتصورات ومخزونات فكرية أحادية قاصرة مشوهة، لا تمثل قاعدة صالحة لفهم مشترك أو حوار بناء. والواجب تمهيد أرضية الحوار ، ومن ثم الاتفاق على الثوابت، والاتفاق على الأهداف والغايات، وعرض الإشكالات الأساسية عند كل فريق بما يسمح بتبادل وجهات النظر، وتبادل المعلومات المتعلقة بقضايا الخلاف والإشكالات المطروحة لفهمها وإدراك جوهرها، وإيجاد الحلول المقبولة المناسبة لمعالجة إشكالاتها؛ بما ينير الطريق للأطياف المتحاورة للوصول للأهداف المشتركة المبنية على الثوابت والغايات المشتركة، بروح التقبُّل للآخر، وإدامة الحوار المثمر، والتعاون الخير معه، في وحدة حضارية إنسانية وبناء هذه المهمة جديرة بمركز الحوار الوطني فهل يقوم بها ؟. * الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة