عجيب أمر هذا العالم يتغنى بالقيم والمبادئ ويحتفي بشعاراتها، لكن واقعه ينوء بتناقضات بين ما يقال وما يمارس بالفعل، مثال ذلك العدالة الاجتماعية التي خصص لها يوم (20 فبراير) بوصفه اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية حيث دعت الأممالمتحدة إلى تكريس هذا اليوم الخاص لتعزيز أنشطة ملموسة، تدعم الرفاه الاجتماعي. العدالة الاجتماعية (Social Justice) تناول معناها الكثير من النظريات والأطروحات وكل أيديولوجية أو مدرسة فكرية تقدم مفهومها ونظريتها، لكني أقدم لك المفهوم الإسلامي للعدالة الاجتماعية في مظهره العملي، فهو إعطاء كل ذي حق حقه دون تمييز أو محاباة ودون اعتبار للحب والكره والمنفعة أو القرابة. فهو يعني تمكين صاحب الحق من الوصول الى حقه من أقرب الطرق وأيسرها. وخذ هذا الموقف النبوي العملي من كفالة الحقوق للناس: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلاَّ قَضَيْتَنِي فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ قَالَ إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَقْرَضَتْهُ فَقَضَى الأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ فَقَالَ أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إِنَّهُ لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ). وهناك ثلاثة أبعاد أساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية: منها البعد الاقتصادي الذي يتضمن اشتراك أفراد المجتمع فى العملية الإنتاجية وفى جني ثمارها. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } سورة الملك: (15) مع توفير الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة الكريمة وهو ما يعرف عند فقهائنا بحد الكفاية. ومنها البعد الحقوقي، الذي يضمن الحقوق الخاصة لكل فرد في المجتمع، ونجد أصله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } سورة النساء (135). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة المائدة (8). ومنها البعد القيمي، الذي تبعثه ثقافة تحث على التكافل والتضامن، وتنمي الشعور بالمسؤولية الاجتماعية وتؤكد على مراعاة حقوق الآخرين المادية والمعنوية، وقد عمق النبى صلى الله عليه وسلم مبدأ التكافل قولا وفعلا فيما صح عنه: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)). إن تجسيد العدالة الاجتماعية في دنيا الناس وتنقية الحياة من الظلم هو سبيل إلى الاطمئنان والاستقرار والأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام (82). ومن الخطوات العملية لتعزيز العدالة الاجتماعية صدور حزمة الأوامر الملكية التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التي تتعلق برفع مستحقات المشتركين في الضمان الاجتماعي رعاية للمعوزين وتخفيف المعاناة عنهم، وكذلك قضاء مديونية السجناء والإفراج عنهم حتى يعودوا إلى أسرهم ويباشروا حياة جديدة قادرين على العمل والإنتاج. لكي تصبح العدالة الاجتماعية واقعا ملموسا على كل منا أن يسعى إلى تحقيقه حيثما كان في أي موقع من مواقع الحياة الاجتماعية في الحكم والبيت والعمل كما بين رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن – وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم وما ولوا)) أخرجه مسلم. * أستاذ مشارك بجامعة الدمام